+ A
A -
لم يكن قرار الرئيس الاميركي ترامب شطب العراق من الدول المحظور حصول مواطنيها على تأشيرات لدخول الولايات المتحدة مفاجئا، فقد استقر رأي ترامب بعد جلسات مكثفة مع مساعديه، على أن العراق المحتل فعليا من قبل إيران يجب أن يمنح الاولوية في برنامج واشنطن السياسي في الشرق الاوسط والخليج.
وقد أدرك وزراء الدفاع والخارجية والحرب في الولايات المتحدة ان الاطماع الإيرانية مخيفة ولا تقف عند حد، وباتت تشكل تهديدا لوحدة العراق وعروبته، ويمكن للميليشيات التي ترعاها إيران وتنفق عليها، خاصة التي تمت شرعنتها المزعومة وادعاء محاربتها الإرهاب لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي والتي لا تأتمر إلا بأوامر قادة الحشد الشعبي الإيراني مثل حزب الله والميليشيات العراقية والحوثيين التي ساعدت جميعها على تكثيف التطرف في المنطقة.
ومن خلال تفحص أوضاع العراق وسوريا واليمن ولبنان نجد أن الميليشيات الشيعية أصبحت أمرا واقعا وقريبا من فكرة استكمال حصار الجزيرة العربية. غير أن صحوة السعودية والتحالف العربي والإسلامي الذي تقوده مازال يشكل عائقا وحائط سد منيع أمام مؤامرات الحوثيين المستمدة من طهران وهو ما يعطل محاولتهم تشكيل خطر داهم على الأمن العربي والخليجي.
هذه الحقائق يدركها الجميع ولا يجدي إنكارها من جانب إيران أو محاولة التخفيف من وطأتها. ولا بد من الإشارة إلى حالة الفزع التي تعيشها إيران منذ ان استمعت مندهشة ومستغربة إلى دونالد ترامب وهو يعلن ان إيران دولة إرهابية تجب معاقبتها، وبعد ان اتبع تحذيره الكلامي بإجراء فعلي تمثل في فرض عقوبات قاسية جديدة بسبب إجرائها تجارب صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية.
ويتردد في واشنطن ان هذه التجارب كادت أن تدفع الرئيس إلى اقتراح تأديب إيران عسكريا لان تجربة مثل هذه الصواريخ تنطوي على تحد ليس لمجلس الأمن فحسب، بل وللولايات المتحدة نفسها، من خلال الايحاء بقدرتها على صناعة السلاح النووي وهو ما تعهدت بعدم الاقدام عليه، ووقعت لأجل هذا الاتفاق النووي مع دول مجلس الأمن دائمة العضوية وألمانيا.
سببان للفزع
أسباب الفزع الإيراني تتلخص في اثنين أولهما تلويح ترامب عشرات المرات بتمزيق ذلك الاتفاق واصفا إياه بأنه الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة.. فهذا الاتفاق «الغبي» بالفعل قدم لإيران عشرات المليارات سواء على صورة استثمارات غربية في مجالات عدة، أو من خلال الغاء معظم العقوبات المفروضة عليها والتي كسرت ظهرها اقتصاديا.
لا أحد يعرف على وجه التحديد لماذا انقلب اوباما على السعودية والعرب، ووضع بيضه كله في سلة إيران معتبرا السنة هم الإرهابيون هكذا أقنعته طهران، لكن من حسن حظ المجتمع الدولي أن هذا البيض قيد التشقق والتكسر على صخرة الصحوة الأميركية، حيث أدرك ترامب جهل اوباما وقرر دون مواربة التصدي للمشروع وإجبار طهران على العودة إلى حدودها وإلى الخطط التي انطلقت منها نحو سوريا والعراق ولبنان واليمن.
السبب الثاني
أما السبب الثاني للفزع فنعزوه إلى التحركات البحرية التي بدأت منذ الآن على شكل إرسال قطع بحرية إلى الخليج وتحذير الإيرانيين وعملائهم من مغبة أي مضايقات يقدمون عليها في هذا الاطار. ومما يزيد من حالة الفزع أن احتمال الفشل المبكر لترامب وخروجه من السلطة بطلب من قانونيين ومشرعين من سيناتورات ونواب تراجع كثيرا إلى درجة أن محللين كبار كانوا يتوقعون لترامب أن يخرج من البيت الابيض خلال اسابيع، باتوا الآن على قناعة بأنه راسخ مع انحسار موجة الغضب المبالغ فيها التي رافقت صعوده إلى سدة الحكم قبل اقل من شهرين.
لهجة إيران تتراجع
في السابق كنا نسمع رئيس الاركان الإيراني محمد باقري يتحدث عن حاجة بلاده إلى بناء قواعد عسكرية في سوريا واليمن «لردع الأعداء». وفي العراق قال فالح فياض مستشار الأمن الوطني في حكومة العبادي ورئيس الحشد الشعبي إن الحشد تحول الآن إلى تشكيلة تتميز بالاطر العسكرية الشاملة التي تمنع انتقاده ومساءلته بل اطلاق يده لحراسة المنطقة لصالح الرؤية الإيرانية. غير أن اللهجة الإيرانية الطامعة بالخليج والشرق الاوسط صمتت الآن صمت القبور، والمسؤولون الذين كانوا يكثرون من التبجح والتفاخر بقدراتهم الثورية وتحديدهم البحرين بالاسم كبداية للمشروع الخائب، سكتوا عن بكرة أبيهم حتى لا يستثيروا غضب الأميركيين التواقين كما تقول التقارير الواردة من واشنطن، لتأديب إيران مرة واحدة وللأبد.
ترامب هو الذي يُصعّد
أما الذين كانوا يتساءلون عما إذا كان الأميركيون أم الإيرانيون سيتخذون الخطوة التصعيدية الأولى، جاءهم الجواب بأن ترامب أول من صعد المواجهة عندما استصدر عقوبات سريعة فور تجربة الصاروخ الباليستي مهددا بالمزيد اذا تم اجراء تجارب جديدة، وإذا كان اوباما قد لوح بحربين واحدة مع «صين توسعية» ضد تايوان والثانية «الإسلام التوسعي» قاصدا إيران، تحدث مساعدوه عن حرب شرق اوسطية كبرى قادمة، ذهبت واشنطن إلى حد ادانة «روسيا العدوانية» التي لن ترفع عنها العقوبات ما لم تعد شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا وتهديد كوريا برد حاسم.
في الوقت نفسه تعرف إيران أن الولايات المتحدة ليست ذاهبة للحرب غدا فالمواجهة تحتاج إلى استعدادات وخطط واتصالات وتحالفات مع أوروبا وقوى في الإقليم كما تستدعي حسابات دقيقة تتجاوز مسرح العمليات وتداعياتها على المنطقة والخارج والعالم كله في الواقع.
مقايضات
قد لا يتسع المجال للحديث عن خطط إدارة ترامب في الصين وكوريا الشمالية غير أن ما يعنينا بالنسبة لمنطقتنا هو نوع الاستراتيجية التي سيعتمدها الأميركيون في التعامل مع الخليج والشرق الأوسط عموما، وعلى سبيل المثال فإن العقوبات الأميركية على روسيا قد تسمح لواشنطن بمقايضة رفع تلك العقوبات بمكاسب على الأرض، خصوصا مع رغبة الكرملين في الخروج السريع من المستنقع السوري ومثله تركيا التي يطمئنها تعزيز البنتاغون دور قوى عربية وليست كردية في معركة تحرير الرقة، في الوقت الذي تستعد فيه أنقرة لاستعجال تسوية تريحها من طموحات الأكراد. لكن الأطراف الثلاثة أميركا وروسيا وتركيا ترغب بشدة في ان ترفع إيران يدها عن سوريا.
وفي هذا الصدد نقلت صحف روسية عن مسؤولين قولهم إن فلاديمير بوتين تعهد لأطراف أميركية وإسرائيلية بإخراج الميليشيات الشيعية والحرس الثوري الإيراني من سوريا بمجرد التوصل إلى تسوية هناك. لذلك قد يكون أسهل الطرق انضمام واشنطن إلى تفاهمات بوتين وأردوغان للحد من تدخلات طهران في بلاد الشام، ولابد من الاشارة في الوقت نفسه إلى ان إيران ستقاوم بشدة أي محاولات لتقليم أظفارها في المنطقة خاصة أنها تملك جيشا كبيرا من الميليشيات المحلية في العراق وسوريا ولبنان وأنها لن تتساهل حيال تحجيمها أو زعزعة البناء الذي أنفقت سنوات وأموالا طائلة في بنائه.
تفاهم سري
غير أن ما يشغل بال إيران الآن هو كيفية مقاومة التفاهم الثلاثي السري بين موسكو وانقرة وواشنطن على الحد إلى أقصى ما يمكن وجود إيران أو تدخلها في الشؤون السورية رغم انها ستقاوم هذا المسعى بقوة بعد ان خسرت 2700 قتيل حسب الارقام الرسمية و10 آلاف حسب المعارضة في حربها إلى جانب الأسد.
وما يقلقها بشكل خاص تهديدات دونالد ترامب التي تبدو جدية وطويلة الأمد ضد إيران وإصداره الأوامر ليس فقط للتصدي للحوثيين في باب المندب ومنع الأسلحة إليهم، وإنما بإرسال سفن حربية للخليج موجها التحذير للزوارق الإيرانية من مغبة استفزاز الأسطول الأميركي من خلال التحرش. وهكذا تكون طهران تيقنت أن تهديدات ترامب لم تكن جوفاء وأن الأمل في إخراجه من السلطة عنوة قد تراجعت بشكل كامل.
مدمرات
وإذا كانت مدمرات حربية أميركية ترابط الآن في مناطق قريبة من الساحل اليمني في الوقت الذي أرسل فيه ترامب قوات من الكويت للمساهمة في الإسراع في الحرب على داعش وإقدام القوات الأميركية على قصف مركز لمواقع داعش والقاعدة وانجاز انزال جوي اميركي للمساعدة في ذلك الهجوم، فمعنى ذلك ان الرئيس الجديد ليس تواقا فقط إلى منازلة إيران قرب سواحلها، لكنه يقدم لها الرسالة تلو الأخرى بأنه ليس مهتما بدورها في محاربة داعش انطلاقا من اعتقاده بأنها اكثر إرهابية منه، وهذه العقيدة سائدة بين كبار الجنرالات والوزراء ورجال المخابرات الأميركيين.
إيران على لائحة المنع
ولم يكتف ترامب بذلك بل وضع إيران في مقدمة الدول السبع «الذين منعت إدارته مواطنيها من دخول الولايات المتحدة (ثم استثنى العراق وأبقى إيران) مطلقا تغريدة على تويتر جاء فيها «إيران تلعب بالنار» وذلك بعد أن تمادى الإيرانيون في أنشطتهم العدائية سواء في سوريا أو في العراق واليمن والخليج العربي حيث تصرفت بجنون عظمة لا يخفى على أحد معتقدة أنها دولة عظمى من حقها أن تنافس زملاءها في الحصول على مكاسب!.
ولن ننسى ذلك التصريح الأرعن الذي حين أطلقته إيران مؤخرا ضد دول المنطقة ومنها البحرين واليمن حيث قال نائب قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي في تصريحات رسمية لراديو طهران أن الانتصار في حلب مقدمة للبحرين.
ونظن أنه ما لم تسارع إيران إلى التراجع عن مشروعها التوسعي والقائم على اساس العرق والطائفة فإن الصدام قادم، خاصة أن دولة كالولايات المتحدة لن تسمح لدولة مثل إيران أن تعتدي على المنطقة وتهدد مصالح الدولة الاعظم بسلسلة من التعديات والانتهاكات والاستفزازات.
وكما تعتقد صحيفة العرب اللندنية فإن العراق حسب المنظور الأميركي الذي رسخته إدارة ترامب هو محور المشروع الإيراني في المنطقة وأن دخول طهران إلى تلك الدولة واحتلالها هو النقطة التي أفاضت الكأس الإيرانية والتي امتدت سمومها إلى سوريا واليمن وعززت وجود إيران التوسعي في لبنان ايضا. وعلى هذا الاساس اصبح لزاما كما ترى الصحيفة المذكورة على واشنطن أن تبدأ حربها على إيران من العراق، وهذا ما يعيدنا إلى ما ورد في مطلع البحث الحالي بشأن مركزية العراق الذي قرر ترامب ان يعتبره المنصة التي تنطلق منها العملية الهادفة إلى طرد الإيرانيين من الاراضي العربية سواء في ارض الرافدين أو سوريا أو اليمن.
إعادة تنظيم
وتشير التقارير الواردة من الولايات المتحدة إلى أن إدارة ترامب تنظر إلى هذه المعركة كخطوة اساسية لاعادة تنظيم السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، بما في ذلك اعتبار العراق منطلقا رئيسيا للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش).
ومما اغضب إيران وفاجأها ان شيعة العراق خارج دائرة الحكم هناك، اكتشفوا انهم يعيشون الوهم الامبراطوري الإيراني، وانه لم تعد لديهم أي رغبة في غسل اقدام الزوار الإيرانيين كما فعلوا في الموسم الماضي وهو ما أطلق عليه كاتب عراقي ذات مرة «الزهو الشيعي» الذي يتعرض لهزة أرضية اسمها دونالد ترامب.
كان 12 دولارا ثمن برميل البترول في زمن رئيس الوزراء السابق العاشق للأفكار الإيرانية السياسية والدينية ودمجهما معا في خلطة قاتلة من تسييس التشيع وجعله العمود الفقري للسياسة الخارجية الإيرانية، وبعد ذلك السياسة العراقية. رئيس الحكومة المقصود هو نوري المالكي السياسي العراقي الذي كان يتصرف بخيلاء وغطرسة ويمثل في الوقت نفسه رمز الفساد العالي الكلفة حيث بلغت الثروة المسروقة التي راكمها في الغرب فوق المائتي مليار دولار.
لقد وصلت ميزانية الدولة العراقية في عهده الذي امتد ثماني سنوات إلى «150» مليار دولار، وكان المالكي مهتما بشيء واحد وهو تعزيز التحالف مع إيران، لا بل تحويل العراق إلى مستعمرة إيرانية، علما بأنه تربى أصلا في حوزات قم عندما كان هاربا من العراق أيام صدام حسين، حيث دفعته المخابرات الإيرانية إلى أحضان حزب الدعوة.
الحرب بدأت بالفعل
حرب أميركا على إيران بدأت بالفعل، فالإدارة تفرض عقوبات على «25» كيانا إيرانيا منذ شهر فبراير الماضي، ما بين فرد ومؤسسة، وتمنع حوالي مليون إيراني داخل الولايات المتحدة من التنقل بحرية بما في ذلك تقييد زيارة بلادهم الاصلية أو تحويل المال إليها، أو التجارة وبناء المشاريع التي تستقطب العملة الصعبة. وهذا في الواقع هو جزء من حصار اقتصادي ضخم وعقوبات عميقة وممتدة، رغم قسوة الإجراءات تعتبرها إدارة ترامب مجرد خطوة صغيرة على الطريق.
يبقى السؤال المركزي يدور حول ما اذا كانت مواجهة عسكرية ستحدث. فهل يتفرج شيعة العراق على إيران وهي تتعرض للضرب؟. يقول الجنرال المتقاعد ديفيد بتريوس الذي قاد القوات الأميركية في العراق لفترة، انه بوجود أحزاب سياسية شيعية تابعة لإيران في العراق يعتبر الانضباط مستحيلا، وإذا تدخل هؤلاء لغير صالح إيران سيتعرضون لعملية اضطهاد سياسية من قبل طهران، خاصة وانه ليس لديهم قوة الدول العربية الكبرى التي تستطيع التحكم بنفسها ولا تلجأ إلى اتخاذ قرارات ثورية مهما حدث.
أين داعش؟
واللافت انه لاذكر تقريبا لداعش في الاعلام الاميركي هذه الايام، ولا نقاشات حول هذا الموضوع، ذلك ان هناك استهجانا عاما في الولايات المتحدة في ان تلجأ إيران إلى محاربة داعش، وهي في نظر صناع القرار الاميركيين أشد إرهابا من تنظيم الدولة.
ويتردد في واشنطن ان ترامب قال انه لا يهمه اذا كان الاسد ديكتاتورا، ولكنه أحب صدام حسين لأنه الرجل المناسب لقمع الإرهاب والقاعدة وعملاء إيران، وهو ما يشي برغبته في ان يحكم العراق مستقبلا ديكتاتور سني قومي عراقي للحد من الإرهاب والتدخلات الإيرانية.
أين «الموت لأميركا»؟
قبل اسابيع قليلة فقط كان المصلون في طهران يهتفون بالموت لأميركا بينما كانت بلادهم توقع اتفاقا قيمته 16.6 مليار دولار مع شركة بوينغ. لكن مثل هذه الشعارات تغضب ترامب إلى حد الجنون. لذلك تبدو السياسة الإيرانية اليوم حذرة ومتخوفة من المستقبل إلى أبعد الحدود. وفي زيارته مؤخرا لقبور «الشهداء» لم يلق المرشد الأعلى علي خامنئي كعادته الخطب الحماسية والاستفزازية وحافظ على هدوء غير معتاد.
واذا كان علي اكبر ولايتي أهم مستشاري خامنئي يصرح بأن طهران ستواصل تجاربها الصاروخية التي تزعج واشنطن، فقد غرد ترامب على تويتر ان «إيران تستولي بشكل متسارع على العراق».
على ضوء ذلك هل يسقط روحاني المعتدل أم تأتي نسخة متشددة مثل أحمدي نجاد؟ الاسابيع القادمة ستشهد تفجر الصراع بين واشنطن وطهران وسيقرر الكثيرون بما في ذلك مستقبل الاتفاق النووي.
copy short url   نسخ
16/03/2017
1181