+ A
A -
بقلم - باسم توفيق
لعلنا في بعض الأحيان لا نستطيع أن نصدر حكما حقيقيا ومحددا على بعض الفنانين لعدة أسباب أهمها أن البروباجاندا التي تنشأ حول فنان ما تجعل منه أسطورة أو حكاية شعبية ومن ثم تصبح حياته رومانس مثل الأبطال الخياليين، ويصبح أي نقد فعلي وتحليلي يوجه إليه من قبيل الهجوم وبالطبع يصبح للفنان مؤيدون ومهووسون بفنه تحت تأثير هذه البروباجندا، وهؤلاء يشكلون فريقا دفاعيا وهجوميا إذا تعرض هذا الفنان للنقد أو التوصيف الذي يضعه في موقعه الحقيقي.
ما من فنان تنطبق عليه هذه الصفات في تاريخ الفن التشكيلي أكثر من بابلو بيكاسو، هذا الاسباني الذي يعتبر بحق أسطورة الفن التشكيلي في القرن العشرين، ولقد وصل الهوس به من قبل تلاميذه ومريديه لحد التقديس فاعتبره البعض ممسوسا أو مسحورا وهذا يجعل الخوض في قضية نقدية عادلة تجاهه صعبا بل ومستحيلا، حتى أنه في ندوة عن بيكاسو في كلية سان جوليان هاجم أحد الفنانين بعض أعمال بيكاسو فثار ضده الحضور ووصل الأمر لطرده من الندوة.
إذن فإن البروباجندا والأساطير الذكورية التي رويت حول بيكاسو جعلت منه معجزة غير قابلة للنقاش، لكن الحقيقة أن بيكاسو على الرغم من موهبته الفطرية وذكائه الفني فإنه لا يتعدى أي فنان باريسي في عصره، بل هناك من يفوقه من الناحية الفنية جذبا وتجديدا وإثارة، مثل خوان ريبولييس مثلا وغيره كثيرون.
تستضيف متاحف قطر هذه الأيام معرضا استعاديا لأعمال اثنين من أساطين الفن التشكيلي في العصر الحديث هما بابلو بيكاسو وهو غني عن التعريف والكلام عنه مثل تفاحة تم قضمها مئات المرات، لكن الفنان الآخر الذي يجمعه المعرض مع بيكاسو هو الفنان السويسري الكبير البرتو جياكوميتّي، وأعتقد أنه أحق بالتعريف وإلقاء الضوء عليه للقارئ العربي أكثر من بيكاسو الذي طبق حياتنا الفنية شهرة وتأثيرا تحت تأثير البروباجندا.
وعلى الرغم من ذلك نحن لا نبخس حق بيكاسو بالطبع الذي قاد الانقلاب في الفن التشكيلي في النصف الأول من القرن العشرين، لكن فيما بعد ذلك قادته القيم التجارية والنفعية ليصبح فنانا يعيش على شهرة جماعة لم يبق منها غير اثنين أو ثلاثة من الذين أصبحوا لمعاصريهم تراثا بائدا مثل سالفادور دالي وغيره من السرياليين، ومن ثم علينا أن نعترف ان بيكاسو قبيل الستينيات بقليل كان قد أفرغ من محتواه وأصبح بيكاسو الفنان يتبع بيكاسو الاسم واللقب في عالم الفن أي انه أصبح يقدم أعمالا للكسب التجاري مدعومة بتاريخه الذي مضى في ثلاثة عقود كحلم خيالي لشخص مثل أبطال الحواديت.
ويضم المعرض -الذي يقام في «مطافئ.. مقر الفنانين» بالعاصمة الدوحة- أكثر من 120 عملا فنيا للفنانين المرموقين تم جلب بعضها من المجموعات الفنية في متحف بيكاسو الوطني بفرنسا ومؤسسة جياكوميتي، واستعارة البعض الآخر من مجموعات فرنسية مذهلة وغيرها من المجموعات الدولية.
وتتنوع هذا الأعمال بين اللوحات الفنية والمنحوتات والرسومات والصور والمقابلات مع الفنانين. ويأتي هذا المعرض تتويجا لعامين من البحث الذي أجرته مؤسسة جياكوميتّي ومتحف بيكاسو الوطني، وفيه يُكشَف النقاب للمرة الأولى عن العلاقة غير المعروفة بين الفنَّانَين.
ويلقي المعرض المؤلف من ستة أقسام الضوء على زوايا مختلفة لإبداع كل فنان، حيث يتتبع مسار تطوير أعمالهما الفنية منذ مرحلة الشباب وصولا إلى إبداعاتهما الحداثية، موضحًا التوافق بين أعمالهما ومدى تأثرها بالحركة السريالية وعودة الواقعية في فترة ما بعد الحرب.
ويضم المعرض أعمالًا بارزة لكل فنان، منها: البورتريه الذاتي (1901)، وامرأة تلقي حجرا (1931)، والعنزة (1950) لبيكاسو. وزهرة في خطر (1932)، وامرأة طويلة القامة (1960)، والرجل الذي يمشي (1960) لجياكوميتي.
كما تعرض في هذه الفعالية الثقافية غير المسبوقة مجموعة من المنحوتات النادرة الرقيقة، وبعض الأشياء التي اكتشفت مؤخرا، ومنها رسومات وأرشيف للصور، بالإضافة إلى نسخ طبق الأصل من أعمال الفنانين مخصصة لضعاف البصر.
يعتبر اختيار جياكوميتّي مع بيكاسو ذا مغزى لأن بيكاسو صاحب ثورة في التصوير وجياكوميتّي صاحب ثورة في النحت.
أحلم دائما أن يكون الإنسان شاهقا مثل بنايات العصر الحديث وأراه دائما مطرقا وطاوي الرأس في لمسة انكسار، هكذا يصف البرتو جياكوميتّي النحات والرسام السويسري أعماله الأشهر في سويسرا منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن.
يعتبر جياكوميتّي معادلة صعبة على فن النحت حيث عرف بكونه نحاتا اكثر منه رساما، فنحن لا نعرف نحاتا في العصر الحديث صدر لكل المجتمعات الفنية تيمات نحتية أكثر من جياكوميتي، والذي يعتبر بحق صاحب مدرسة كبيرة وثورة على تقنيات فن النحت، وهذا ما قاله عنه بابلو بيكاسو حيث وصفه بأنه يتبع نموذجا فريدا من ابتداعه هو بحيث تطل علينا شخوصه وكأنها خارجة من بطن حكاية شعبية تروى لطفل لم يتعد سن السادسة.
كما يصفه ماكس ارنست الفنان السريالي الكبير بأنه فنان ذو شفرة خاصة وعميقة وذو نظرة طليعية لفن النحت.
على اية حال فإن جياكوميتي يعتبر أشهر فنان سويسري على الاطلاق باعتبار ان معظم من سمعنا عنهم في سويسرا كانوا في الأساس من اصول ليست سويسرية، من هنا كان لجياكوميتي مكانة كبيرة في سويسرا وفي أوروبا كلها بالطبع.
ولد البرتو جياكوميتي في اكتوبر عام 1901 في مقاطعة برجونوفو الواقعة على الحدود الإيطالية وكان لنشأته في بيئة فنية دور كبير في حياته حيث كان والده جيوفاني جياكوميتّي رساما ينتمي للمدرسة ما بعد الانطباعية من هنا أظهر البرتو ميلا للفن فأرسله والده ليدرس في مدرسة الفنون الجميلة في جينيف، وفي عام 1922 سافر جاكوميتي ليدرس النحت في باريس وهناك درس على يد انتونيو بورديللي وأصبح أحد تلاميذ أوجست رودان بشكل غير مباشر، وفي باريس بالطبع التي كانت تعج بالفنانين من كل حدب وصوب انضم جياكوميتي لجماعة السرياليين واصبح صديقا لبيكاسو وماكس ارنست وجون ميرو كما تأثر بعض الشيء بتكعيبية بيكاسو.
كانت المرحلة الإبداعية الأولى لجياكوميتي في فن النحت هي التركيز على الرأس البشرية، وهذه المرحلة استغرقت من عمره الفني 4 سنوات وفي هذه المرحلة طغى تأثره بالموديل ايزابيل دلمار صديقة أخيه على معظم اعماله حيث كان يجد فيها نموذجا لرؤيته النحتية، وكان دائما ما يردد أريد ان أصنع رأسا بسمك السكين وهذا ما يفسر فيما بعد اتجاها للمبالغة في التنحيف ليس في الرأس فقط بل في بقية الجسم، لكن علينا ان نقول ان ايزابيل لم تكن الموديل الوحيد في هذه المرحلة بل كان أخوه ديجو جياكوميتي أحد الموديل المفضلين لديه أيضا ونظرا لنحافته أثرت تلك المقاييس في جياكوميتي بدرجة كبيرة.
وإذا أردنا ان نحلل جياكوميتّي علينا ان نضع مقاييسه نصب أعيننا لأن النحت مقاييس كما نعلم وليس علينا ان نتجاهل فلسفة تلك المقاييس حتى نصل إلى عمق التجربة الفنية لجياكوميتي. بداية يجب ان نقول ان العالم كله استعار مقاييس جياكوميتي في قطع فنية كان الهدف منها إثراء فكرة الديكور حيث ان نموذج جياكوميتي لا يمثل جسدا بشريا بالتحديد بل دعنا نقُل شبحا لجسد، حيث تبقى فقط بعد الرؤية حضورا لفكرة وجود الجسد وهذا ما شجع جياكوميتّي فيما بعد إلى الاتجاه إلى التقليل في الحجم ايضا وليس التنحيف فقط، فنحن نجد له في مراحل لاحقة تماثيل بحجم عقلة الأصبع واحيانا اقل على الرغم من ان لها نماذج قد تتعدى الحجم الطبيعي للإنسان العادي، وقد نصيب إذا قلنا إن جياكوميتي اقترب أكثر من نموذج النحت البدائي التوتمي والطفولي والفطري، فبعض النقاد يرون ان جياكوميتي يعبر عن نظرية الفن الفطري بشكل واعٍ.
وفي تقديرنا الشخصي فإن جياكوميتّي يحاول ان يبلور فكرة غياب الكتلة وحضور الجسد كفكرة، من هنا تعبر فلسفته عن فكرة السمو بالجسد حيث يسقط عنه أحيانا مفاتنه ومثيراته ليظل فقط مجرد رمز للجسد، وهذا يمثله دائما التنحيف المفرط الذي أصبح فيما بعد أهم سماته الأساسية.
في عام 1962 فاز جياكوميتّي بجائزة بينالي فينيسيا الدولي للنحت حيث كفلت له هذه الجائزة شهرة عالمية واسعة وانتشرت نماذجه النحتية المعدنية في معظم أرجاء أوروبا ونشطت ايضا نماذجه في التصوير، حيث كانت له كتالوجات فيها دراسات لونية واستيلوجرافيك، ومن هنا اصبح جياكوميتي مدعوا لمعظم المناسبات الفنية في أوروبا حيث أقام معارض كثيرة بل وتمت دعوته من قبل متحف الفن الحديث في نيويورك بالولايات المتحدة عام 1965 حيث تم تكريمه هناك في معرض خاص لأعماله وقام المتحف باقتناء بعض أعماله المميزة.
وبعد ذلك وفي خضم هذه الفورة من الشهرة والحركة تدهورت صحة جياكوميتي وبدأ في التردد على المستشفيات حيث عانى من أمراض القلب، وفي 11 يناير 1966 توفي في احد المشافي السويسرية وتم نقل جسمانه إلى مسقط رأسه بورجونوفو حيث دفن بالقرب من والديه.
يعتبر جياكوميتي من بين 5 نحاتين أثروا فن النحت ثراء كبيرا حيث رؤيته الفلسفية لفكرة تعبير الكتلة عن المشاعر بل وفكرة تبسيط الرؤية النحتية، ويعتبر ايضا صاحب مدرسة التنحيف ذات المقاييس المميزة.
copy short url   نسخ
27/02/2017
2408