+ A
A -
عبدالسلام جادالله

يتابع مواسمها الرجال والنساء والمتخصصون والفنانون ودور الموضة وخبراء التصاميم، عالم قائم بذاته له أماكنه الراقية ومداخله الفاخرة وموظفوه الأنيقون، أرى الداخلين والداخلات إلى أروقته يتيهون في مشيتهم ويتأنقون في كلامهم ويبالغون في تنقية ذلك الكلام من كل ما يوحي إلى أنهم عاديون، لا يجادلون في الأسعار، يدفعون دون تردد، المهم لديهم العلامة التجارية، التي كلما كانت أكبر وبحجم لافت كانت مفضلة أكثر لغرض التباهي أمام أنظار العاديين الذين تتركز أحلامهم أثناء النوم في الانتهاء من دفع الأقساط الشهرية ورسوم مدارس أبنائهم.

لا أحد يتابع ما تقول، الكل يتابع الأزياء، البعض يسميها قشور، لكن تلك القشور لها قدرة فائقة على الإقناع أكثر من كل كتب الغزالي وابن رشد، بمجرد أن يُشاهَد أحدهم أو إحداهن يرتدي أزياء الموسم الجديد، يصبح صاحب حديث مقنع حتى لو لم يتكلم، ويلفت أنظار الجميع ويستحوذ على اهتمامهم، جميل أن يتأنق المرء ويتجمل، ولكن مع شيء من وعي وقليل من إدراك وبعض من ثقافة، التقارير الإخبارية تتحدث عن وجود بطالة وتضخم وانتشار الجريمة، لكن دور الأزياء بعروضها الفخمة والضخمة تقول غير ذلك.

لمن نتجمل؟! لو كنا نتجمل ليرانا من هم مثلنا في القدرة المالية فنحن بذلك لم نفعل شيئا، ولن ينبهر بنا أمثالنا، لأن لديهم ما لدينا، ومعهم ما معنا، أما إذا كنا نود من تجملنا لفت أنظار الأقل منا قدرة مالية، فإن ما فعلناه لن يجلب لنا نظرات إعجابهم بقدر ما سيجلب لنا نظرات سخطهم وغضبهم وكرههم، في الحالتين نحن خسرنا العلاقة الإنسانية التي بها نتعايش ونتحاور ونتفاهم،الأزياء أصبحت تجلب لأصحابها من ينافقهم ويتحايل عليهم للحصول على المكتسبات، اهتمامنا الزائد بالأزياء فرغنا مما بداخلنا من أحاسيس.

بالأزياء قلنا لمن يرانا هذا نحن، نستطيع شراء هذا الزي أو ذاك، أنت لا تستطيع فعل ذلك، وتركناه يرمقنا بنظرة لا يعلم بمدى مرارتها غير الله ثم صاحبها، بالأزياء وضعنا حواجز بين فلان وفلان،أصبح العاديون يستحون مما يرتدون، ليس أمامهم سوى الاستدانة لكي يستطيعوا السير بثقة في شوارعنا التي أصبحت لا توصلنا إلى شيء، لا علاقات بيننا سوى النظر إلى أزيائنا، نحكم على الآخر من أزيائه، إن كانت بسيطة على قدر ظروفه نرميه بنظرات لا تعني غير عدم الاهتمام بل والاحتقار، وإن كانت محتشمة نتهمه بالتزمت، وإن كانت ثمينة، نسأله عن حقوق الفقراء في ماله، لكننا لا نتوقف أبدا عند عقله وما لديه من رؤى.

وقفت قليلا عند أحزان جبران، وجدتُ بأننا لا نصنع، لا نزرع، لا ننسج، لا ننتج، كل ما يشغلنا هي الأزياء سواء كانت على شكل ثوب فرنسي التصميم أو سيارة يابانية الصنع، مقاييسنا تغيرت وتقلصت حتى أصبحت بين أمرين، إما قصور فارهة وأزياء فاخرة ولغة هجين، أو أعشاش لا تصلح لحياة الأغنام بين أكوام القمامة ومياه الصرف الصحي ولغة مستمدة من قهر ليس له حدود، ومن سخط لا يوصف، أين الوسطية؟! تلك التي تجعلنا نصل إلى قواسم مشتركة تساعدنا على السهر معا والفرح معا، وتجعلنا نستقبل الصباح بابتسامة والمساء بأغنية.

في الغرب والشرق صنعوا كل شيء، حتى مستقبل أجيالهم صنعوه، نحن دمرنا أجيالنا، وعلمناهم أن يتعاملوا مع الآخر بعدائية، وأن يصنفوه حسب الزي الذي يرتديه، قتلنا شيئا اسمه الإنسان فينا، الإنسان الذي يفكر ويبادر وينتج ويعطي، أملنا أصبح محصورا في الدخول الواثق إلى دور الأزياء من أوسع أبوابها لكي نتيه على غيرنا من أهل الحي البائس الذين لم يعودوا يرون في الآخر سوى....أزياء.
copy short url   نسخ
23/02/2017
1498