+ A
A -
دعا الشيخ د. محمد بن حسن المريخي إلى تقوى الله ومراقبته والتدين بدينه الإسلام والعمل به، وأوضح في خطبة الجمعة أمس، بجامع الإمام محمد بن عبد الوهاب، أن الله تعالى أخبر في كتابه العزيز أن النجاة بين يديه يوم القيامة، إنما تكون لمن جاءه بقلب سليم فقال تعالى (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) والقلب السليم هو الذي تطهر من الشركيات والكفريات والبدع والخرافات والنفاق والغل والحسد والحقد والضغينة وهو القلب الصحيح الطاهر وقد رتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاح الجسد وسائر العمل وفساده، فقال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه البخاري ومسلم.
مراعاة القلب
وبيّن صلى الله عليه وسلم وأرشد إلى أن القلب هو محل نظر الرحمن فقال: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم). ومن هنا استوجب على المسلم أن يرعى قلبه ويحرسه ويحوطه برعاية شرعية ويحفظه من كل ما يعكر صفوه ونقاءه ويبقى عليه نور الإيمان وسراج الإسلام ومصباح العقيدة الصحيحة في كل ما أمر الله تعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه) رواه أحمد وصححه الألباني رحمهما الله، ويقول الحسن البصري رحمه الله: «داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته».
إن صلاح الجوارح بصلاح القلب وأعمال القلب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، يثاب على الموالاة والمعاداة في الله ويعاقب على الفخر والحسد والرياء، وإصلاح القلب أفضل من نوافل العبادات، ولا ينال المسلم الكمال إلا بزوال ما بقلبه من الحسد والأضغان.
سلامة الصدر
وأشار فضيلته إلى أن سلامة الصدر من صفات الأنبياء قال الله تعالى مادحاً خليله إبراهيم عليه السلام ((إذ جاء ربه بقلب سليم)) وشق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، مرة في صباه وأخرج منه العلقة، وشق مرة أخرى قبل الإسراء وغسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم.. رواه ابن حبان، ومن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم اهدني واسلل سخيمة قلبي) يعني حقده. رواه أبوداود، وأثنى الله على الأنصار بسلامة صدورهم فقال: ((يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا)) وأخبر عن الصالحين من بعدهم فقال: ((والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)) ووصف السلف رحمهم الله بأنهم كانوا يسعون لسلامة صدورهم، يقول ابن كثير عن قرينه ابن القيم: كان حسن القراءة والخلق، كثير التردد، ولا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد.
أمراض القلوب
وأوضح المريخي أن شر ما أصيبت به القلوب وحوصرت به النفوس واستولى على الأفئدة حسد بغيض وحقد دفين أهلكها وكدرها وأضعف إيمانها وعرّضها للخسارة الأبدية بعد أن أفسد عليها الحياة الدنيوية، إنه مرض من أمراض القلوب، شر من البخل والحرص وأشد من الطمع والشح، بل هو شر أنواع البخل وأذل ضروب الحرص، إنه مرض فتاك قتّال يصيب الغني والفقير والواجد والمحروم والعالم والجاهل والوجيه والمطيع، إنه مرض يجعل الإنسان يبخل بما ليس عنده ويشح بما ليس في ملكه، وهذا من غرائب هذا المرض إذ كيف يتصور أن يبخل المرء بما ليس في حوزته ويشح بما ليس في ملكه، البخيل يبخل بماله، والشحيح يبخل بمال غيره، أما الحسود فيبخل بنعم الله على عباده، إنه خلق ذميم ونعت دميم يقصد به الحاسد ذوي الفضائل والنعم.
ترسب الغلّ
وقال المريخي أي وضاعة وأي صغار أن يترسب الغلّ في أعماق بعض النفوس حتى لا يكون لخروجه سبيل بل لا يزال يموج في جوانب هذه النفوس كما يموج البركان المكتوم، وكثير من أولئك الحاقدين لا يستريحون إلا إذا أرعدوا وأزبدوا وآذوا وأفسدوا، إن من قلة الديانة وظهور الدناءة أن تحل الأثرة في بعض الناس فتجعله يتمنى الخسارة لصاحبه والفشل لرفيقه والنقص لأخيه، لا لشيء إلا أنه لم يربح بنفسه، ولم يفز بجهده، إن جمهور الحاقدين الحاسدين لتغلي مراجل الحقد في أنفسهم، لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد امتلأت به أكف غيرهم، إنه غليان إبليسي يتوقد في نفوس الحساد ويفسد به قلوبهم.
لو وكلت هذه النفوس الحاسدة الحاقدة على خزائن الله لأغلقت أبوابها ((قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً)).
حسد إبليس
وأضاف فضيلته يكفي بالحسد خسة أن اتصف به إبليس، فالحسد هو أول ذنب عصى الله به في السماء إذ حسد إبليس آدم فامتنع عن السجود ومن منعه إلا الحسد ((قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين)) وهو أول ذنب عصى الله به في الأرض حين قتل قابيل أخاه هابيل ((إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين))، والحسد هو تمني زوال نعمة أخيك أو السعي في إزالتها عياذاً بالله، فالحاسد يغتاظ على من لا ذنب له يقول معاوية رضي الله عنه: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها، والحسد يا عباد الله مرض ينهك القلب والجسد، صاحبه ضجر وعلاجه عسر، ما ظهر منه فلا يداوى وما بطن منه فمداويه في عناء، إنه قرين الكفر وحليف الباطل وعدو الحق، منه تتولد العداوة، وبه تحصل القطيعة، وتتفرق الجماعة وتتقطع الأرحام ويفرق الشمل وتتشتت الألفة، وتوغر الصدور وتفسد الضمائر، وبالحسد يجرم الأبرياء، وتشوه الحقائق ويجرح المستورون.
الحسد متنفس حقد مكظوم، ومتقلب صدر فقير إلى الكنف الرحوم، والحسد يفسد الدين ويضعف اليقين ويكثر الهم ويسهر العين ويذهب بالمروءة ويجلب الذل.
يفسد الطاعات
وقال المريخي الحسد يأكل الحسنات ويفسد الطاعات ويبعث على الخطايا، والحسد يحمل على المضي في الباطل وإنكار الحق كما يمنع قبوله، وطبيعة الحسد طبيعة لئيمة تأبى إلا أن تجهر بالسوء وتأمر بالفحشاء وتنكر المعروف وتقبح الحسن وتذم الممدوح وتقطع ما أمر الله به أن يوصل، يبيع على بيع أخيه ويزيد بالسلعة وهو لا يريد شراءها ويخطب على خطبته، ويضايقه في العمل وينقصه في العلم ويتهمه في كسبه ويكذبه في مقالته، الحسد يحمل على كتمان الحق وإنكار الفضل لأهل الفضل إذا علم خيراً أخفاه وإن اطلع على عيب أفشاه وإن لم يعلم حاول الكذب ولربما تعمد الكذب، قاتله الله من داء ومرض فكم من صلة قطعها، وكم من أخوة مزقها، وكم من دم سفكه، الحسد يهون على صاحبه الكذب والغيبة والغدر والنميمة والاحتيال والمكر وتلمس المعائب وتعظيم الأخطاء واستجماع الزلات.
منبع شرور
وأشار فضيلته إلى أن الحسود امرؤ واهن العزم، كليل اليد جاهل بربه، غافل عن سننه، لما فاته الخير تحول يكيد للموفقين، ليس بمدركٍ حظاً، ولا يغالب عدوا، يعيش في طول أسف وملازمة كآبة وشدة احتراق، لا يجد لنعم الله طعماً، ساخطاً على من لم يرض عنه، إذا رأى نعمةً بهت، وإذا رأى عثرةً شمت، يقول ابن رجب رحمه الله: الحسد مركوز في طباع البشر، والسعيد من سعى إلى دفعه، وهو مناف لكمال الإيمان، يقول رسول الله (لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد) رواه النسائي، وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته منه فقال (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا) رواه مسلم، والحسد منبع الشرور ويوجب الظلم ويورث القطيعة، والحاسد ضعيف النفس مبغض للنعم يرى كل نعمة على غيره عظيمة، يتألم من فضيلة تظهر أو منقبة تشكر، إذا رأى فضل الله على خلقه اغتم وإذا عاين زوالها فرح وسر، فلا راحة لحاسد يفرح لحزن الناس ويحزن لفرحهم لا يرى قضاء الله عدلاً ولا لنعمه على الناس أهلاً، لسانه يخرج سواد قلبه قال تعالى ((أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)) يقول معاوية رضي الله عنه: إياك والحسد فإنه يظهر عليك ويتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك، يربي صاحبه ويقوده إلى الذل والمهانة.
الحسود مريض
وقال المريخي: الحسود مريض من رأى حاله في همه وغمه وكمده أشفق عليه، قال بعض السلف: خمس عقوبات تصل الحاسد وتلازمه، غم لا ينقطع ومصيبة لا يؤجر عليها ومذمة لا يحمد عليها وسخط الرب سبحانه ويغلق عليه باب التوفيق، قال حكيم: يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك، ومن النعم أن يكون الإنسان محسوداً، لأن الحسد رفعة للمحسود، إذ النفوس لا تحسد إلا العظيم الناجح البارز الموفق، فكم من نعمة خافية أظهرها حسود، وكم من عبد أثنى عليه بعد أن حسد، حسد هابيل قابيل فبقى ذكره يثنى عليه في كتاب الله، وبحسب فضل الإنسان وظهور نعم الله عليه يكثر حسد الناس له، والمحسود مظلوم مأمور بالصبر والعفو والصفح، قال الله تعالى ((ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير))، وأشد ما تكون المنافسة وأعظم ما يتولد الحسد بين أهل الصنعة الواحدة والشرف المتماثل والبيوت المتجاورة، ومن أسوأ أنواع الحسد ما يقع بين أهل العلم، فإنك تأسى وتتأسف حينما يقع الحسد من أقوام عرفوه وقرؤوا عنه في الوحي المنزل وعرفوا شره وذمه وإثمه، حملوا من العلم وعرفوا من الإيمان ما كان حريّاً أن يصدهم عن مثل هذا الخلق الذميم، فليعلم الحاسد أنه بحسده قد اعترض على قسمة ربه وأنه بذلك أسخط الله عليه فليراجع نفسه وليدفع عنه هذا البلاء الذي يتنافى مع إيمانه وليتبرأ منه، فإنه أهانه وأضعفه وأرضى قيمته ومقامه، كم من الإهانات حصّل ومن الملامات سمع، ومن المواقف المحرجة، واعلم أن الحسد لن يوقف النعم ولن تبلغ الدرجات بل مستقرك في الدركات ولا ينتظرك إلا الفشل وسوء المنقلب.
copy short url   نسخ
21/01/2017
3242