+ A
A -
ولد ميشال عون في 17 فبراير 1932، لأسرة مسيحيّة مارونيّة، من حارة حريك في الضاحية الجنوبيّة للعاصمة اللبنانيّة بيروت، وتعود جذوره إلى بلدة صغيرة في قضاء جزين جنوبي لبنان تُدعى خرخيّا.
تخرّج الرئيس اللبنانيّ من المدرسة الحربيّة في منتصف خمسينيّات القرن الفائت، وبات قائداً للجيش في منتصف الثمانينيّات، وامتهن بعد ذلك السياسة من باب العسكر.
إنّه رابع قائد جيش يحمل لقب «صاحب الفخامة» في جمهورية لبنان البرلمانيّة الديمقراطيّة بعد اللواء فؤاد شهاب والعمادين إميل لحود وميشال سليمان. كان مقدّراً له أن يصبح رئيساً للبنان بعد ثورته على الوصاية السوريّة في لبنان، ولكنّه لم يجد معبراً مباشراً من الثكنة إلى القصر كما كانت رئاسة شارل ديغول الذي قاد معركة تحرير فرنسا من الألمان، أو رئاسة جورج واشنطن الذي قاد معركة انفصال بلاده عن بريطانيا، أو رئاسة أوّل قائد جيش لبناني اللواء فؤاد شهاب بعد ثورة 1958، بسبب الفيتو السوري – الأميركي عليه.
وصل ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، بعد أكثر من ربع قرن من الحروب العسكريّة والسياسيّة، وتجاربه في السياسة كما في العسكر جعلت منه شخصاً بشخصيّات كثيرة. فهو عماد العناد. وهو مقاتل حتّى الرمق الأخير انتصاراً أو انكساراً، ينكسر ولا يلين. وهو مغامر دائم وطامح دائم ومعارض دائم. وهو رئيس بمقولة «أنا أو لا أحد». وهو المنكسر عسكرياً بالأمس، والمنتصر سياسياً اليوم. وهو الذي تخلّى عنه المجتمع الدولي بالأمس، وتولّى الأقربون والأبعدون تبنّي وصوله إلى حيث هو اليوم. هو الذي في صبيحة 13 أكتوبر من عام 1990 آثر الجميع عدم رفع سمّاعات هواتفهم ليردّوا عليه، وهو الذي عشيّة 31 أكتوبر من عام 2016 آثر الجميع رفع سمّاعات هواتفهم لتهنئته بالمنصب الجديد. هو الرجل الذي انتخب بأكبر إجماع سياسي، بعدما أحيط بأكبر انقسام وطني في ما مضى. باختصار، لم يعرف تاريخ لبنان القديم والحديث شخصيّة عسكريّة أو سياسيّة مثار جدل أكثر منه.
رئيس الجمهورية السابق أمين الجميّل الذي ظلّ يأمل بالتمديد حتّى اللحظة الأخيرة من الساعة الأخيرة من ولايته، أرسله مرغماً في يومه الأخير في رئاسة الجمهورية إلى رئاسة حكومة عسكريّة انتقاليّة سمحت له بممارسة صلاحيّات الرئيس على مدى عامين، والإرادة الدوليّة أرسلته إلى المنفى على مدى 15 عاماً.
لم يكن قائد الجيش السابق يوماً على علاقة جيّدة بسوريا الأسد. فبحسب قاموسه العسكري، كانت سوريا بنظره دولة محتلّة للبنان، عليها أن تُنهي احتلالها له، فوجد في «أبوعمّار» الذي كان بدوره على خصومة مع سوريا الأسد ضالّته، وبات الأخير بوابته إلى العالم العربي، وتحوّل في وقت لاحق إلى عرّاب علاقته مع الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، الذي كان أيضاً في حالة خصومة مع نظام الأسد ووجد في لبنان منطقة متقدّمة من مناطق النفوذ السوري يُمكن ضربه فيها.
اعتصم ميشال عون بعيد تعيينه رئيساً للحكومة الانتقاليّة في قصر بعبدا، واعتصم معه كلّ الرافضين آنذاك للاحتلال السوري، وقد مكّنه دعم صدّام حسين له، من شنّ حرب ضدّ القوات السوريّة، ومن ضرب «اتّفاق الطائف» بعرض الحائط، خاصة في شقّه الذي كان يقضي بانتشار سوري على الأراضي اللبنانية، ولا يحدّد آلية لانسحابه من لبنان.
عندما دخل عون القصر الجمهوري في ربع الساعة الأخير من ولاية أمين الجميّل في 22 سبتمبر 1988، لم يصرّف الأعمال كما فعل سلفه اللواء فؤاد شهاب، بل كان يدير حكماً مكتمل المواصفات على وفرة ضغوط جبهته. أدار ظهره للاستحقاق الذي عيّن في سبيل الإشراف عليه وهو انتخاب رئيس، وبدا له أنّ المنصب امتلأ حقاً، علماً أنّه لم تنقضِ أيام على ترؤسه الحكومة العسكرية حتى أضحى الجيش جيشين، وحكومته إحدى حكومتين متناحرتين.
في 13 أكتوبر من عام 1990، أرغم عون على الانسحاب من القصر الجمهوري، واللجوء إلى السفارة الفرنسية، بخطة أمنيّة أشرف عليها السفير الفرنسي في بيروت في حينها رينيه آلا، تحت وابل من قذائف الجيش السوري الذي اقتحم القصر الجمهوري ووزارة الدفاع وقتل من قتل وأسر من أسر، بعضهم لم يعرف مصيره بعد.
عون الذي أمضى في السفارة الفرنسيّة تسعة أشهر قبل أن يغادرها إلى باريس، وحدها فرنسا عبّرت عن تضامنها معه قبيل وبعد مغادرته قصر بعبدا. فقد ضغطت أوّل حكومة لبنانيّة تشكّلت بعيد استلام ما سُمّي بـ «الشرعية» زمام السلطة، لكي لا يغادر ميشال عون الأراضي اللبنانيّة بغية محاكمته، ما اضطر الرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا ميتران لأن يصرّح بأنّ فرنسا لن تسلّم عون أبداً وأنّ هذه مسألة شرف بالنسبة إليها.
أمضى عون منذ مغادرته قصر بعبدا ولغاية 29 أغسطس فترة لجوء سياسي داخل السفارة الفرنسية في بيروت، وقد آثر طيلة فترة إقامته هناك ارتداء بزّته العسكريّة كما لو أنّه لا يزال على رأس المؤسّسة العسكريّة، ثمّ رحل إلى قبرص على متن بارجة حربيّة فرنسيّة ومنها إلى باريس بعد أن اطمأنّت فرنسا إلى شروط ترحيله.
عون المنكسر في العام 1990، هو شخص مختلف عن عون قائد الجيش ورئيس الحكومة في العام 1988، الذي بجملة واحدة وضع حدّاً فاصلاً بين الرئاسة ومرشّح أميركا وسوريا للرئاسة مخايل الضاهر. قال في حينها إنّ «قيادة الجيش لا يسعها القبول بمبدأ التعيين في رئاسة الجمهورية» ومشى، وبعد عامين على جملته الشهيرة «لم يسع قيادة الجيش إلاّ القبول بخسارة المعركة ومغادرة القصر». سلّم قيادة الجيش ذات 13 أكتوبر 1990 إلى العماد إميل لحود، لكنه لم يستسلم. دفع 15 سنة نفياً ثمن رفضه «اتّفاق الطائف»، وقبض تمثيلاً مسيحياً كاسحاً ثمن سنوات منفاه بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان.
لقد تعرّض عون المنفي لمطاردة عهد الرئيس إلياس الهراوي، ولمطاردة عهد الرئيس إميل لحود، وتواطأت عليه كلّ الحكومات التي تعاقبت، تارةً بتهمة التمرّد على الشرعية، وطوراً بتهمة اختلاس الأموال العامّة، وثالثة بتحريك الشارع وتأليبه على السلطة الحاكمة.
قبل يوم من عودته إلى لبنان عام 2005، وصفه زعيم «الحزب الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط بالـ «تسونامي»، وكان ذلك دليلاً على مدى تخوّف الفريق السياسي الذي حكم لبنان زمن الوصاية السوريّة من شخصه، فنشأ بعيد عودته مباشرة حلف إسلامي رباعي بين «الحزب الاشتراكي» و«تيار المستقبل» و«حركة أمل» و«حزب الله» بغية إقصاء عون عن الحكم، ومع ذلك فاز بأكثريّة مسيحيّة ساحقة في انتخابات عام 2005 النيابيّة، ودخل البرلمان بكتلة نيابيّة مؤلّفة من 21 نائباً. لم يحظَ من قبل زعيم مسيحي بكتلة نيابيّة كالتي خبرها ميشال عون في انتخابات 2005 و2009، وأمسى بذلك مفتاح تأبيف الحكومات وتعثّرها، والمفتاح الذي يوصد أبواب قصر بعبدا ما لم يسلّم هو بانتخاب سواه شأن ما حصل عام 2008.
رغم انقلابه في العام 2006 على خيارات العام 2005 السياسيّة، من خلال توقيعه وثيقة تفاهم مع «حزب الله»، التصق مناصروه بخياراته أكثر وأكثر، وبعد أعوام 15 من عمره السياسيّ دفعها في المنفى ثمن رفضه لـ «الطائف»، دفع 10 سنوات أخرى في الوطن خصومة سياسيّة ثمن تحالفه مع «حزب الله» وسوريا، ليقبض مرّة جديدة ثمن عناده رئاسةً.
شعبيّته في الشارع المسيحي، كانت تخوّله التربّع عام 2008 على كرسي رئاسة الجمهوريّة خلفاً للرئيس إميل لحود المنتهية ولايته، ولكن الشرخ السياسي الكبير بينه وبين فريق «14 آذار» في حينها حال دون وصوله إلى سدّة الرئاسة، وأتى بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة، بعد التوقيع على «اتّفاق الدوحة» في 21 مايو 2008، وقد شارك عون في الحكومة التي انبثقت عن «اتّفاق الدوحة» بـ 5 وزراء.
تحالفه مع «حزب الله» أفضى بشكل تلقائي إلى تحالفه مع دمشق وطهران، وقد تعرّض عون لانتقاد شديد من معارضي دمشق على علاقة «حسن الجوار» التي أقامها معها بعد تحاربه مع الأسد الأب، معلّلين رفضهم لهذه العلاقة بأنّ سوريا لم تعترف بالأخطاء التي اقترفتها بحقّ لبنان، بينما برّر عون علاقته بها، بأنّها تنفيذ لوعد أطلقه في عزّ «حرب التحرير» يوم طالبها بالانسحاب لينسج معها أفضل العلاقات.
وقد توّج عون التحسّن الكبير في العلاقة مع الأسد الابن بزيارة تاريخيّة لسوريا في 3 ديسمبر من عام 2008 بدعوة من الرئيس السوري، بعد قطيعة دامت 18 عاماً، وقد أدرج عون تلك الزيارة في سياق المسار العام لسياسة الانفتاح التي اعتمدها منذ عودته من المنفى الباريسي، وتعرّض لانتقادات شديدة عليها على غرار الانتقادات التي تعرّض لها لدى توقيعه وثيقة تفاهم مع «حزب الله»، وتوقّع المنتقدون أن تنعكس هذه الزيارة سلباً على شعبيّته، ولكن أرقام انتخابات عام 2009 النيابيّة أثبتت عكس ذلك، بحيث تمكّن عون من نقل قسم كبير من المزاج المسيحي من ضفّة إلى ضفّة أخرى.
بعد مسيرة من المعارك السياسيّة الداخليّة وصلت ذات يوم إلى حدّ إسقاط سعد الحريري من رئاسة الحكومة وهو يهمّ بدخول المكتب البيضاوي لمقابلة الرئيس الأميركي باراك أوباما، دخل «الجنرال المحارب» القصر الذي خرج منه رئيساً لحكومة مؤقّتة، رئيساً للجمهوريّة، وأنهى بذلك حقبة من الشغور الرئاسي امتدّت سنتين وستّة أشهر، كان هو أحد المتسبّبين بها برفعه شعار «الرئيس هو الحلّ»، وبقَسَم الرئيس ميشال عون على دستور الطائف، انتهت صلاحية اعتراضه على هذا الدستور.
بعد انتخاب عون رئيساً للبنان، اعتبر اللبنانيون أنّ البعض يولد كي يكون رئيساً ككميل شمعون، والبعض يصنع هيبة الرئيس كفؤاد شهاب، والبعض يطلب الرئاسة كي تقتله كبشير الجميّل، والبعض يجرّها إليه كميشال عون.
فعلاً لقد جرّ الرئيس ميشال عون الرئاسة إليه، بعناده ومثابرته، ولكن هل يقتصر مشروع «الجنرال المنتصر» على تبوؤ أعلى هرم وظيفي في الجمهوريّة اللبنانيّة، أم يحمل مشروعاً اجتماعياً – إنمائياً لهذه الجمهوريّة على غرار أوّل قائد جيش خلع البزّة العسكريّة وحمل لقب «صاحب الفخامة»؟ وإذا كان «سيّد القصر» الجديد يحمل مشروعاً مؤسساتياً لإصلاح الدولة اللبنانيّة، فهل سيتمكّن من تحقيق ذلك في جمهوريّة متصدّعة تبحر مكوّناتها في اتّجاهات مختلفة؟ وهل سيتمكّن سيّد الجمهوريّة القوي بشعبيّته من النهوض بالجمهوريّة بشبه جمهوريّة وشبه صلاحيّات وشبه دستور وشبه قانون؟
زمن الرئيس العماد ميشال عون مختلف عن زمن الرئيس اللواء فؤاد شهاب، ولذلك قد يمتلك الرئيس عون نفس الطموح الذي امتلكه من قبله ابن مؤسّسته العسكريّة الرئيس شهاب، ولكنّه لن يمتلك على الأرجح أدوات التنفيذ التي امتلكها شهاب، والسنوات المقبلة كفيلة بأن تثبت لنا ما إذا كان عون «شهاب» عصره أم لا.
copy short url   نسخ
21/01/2017
1079