+ A
A -
السيدة التي قطعت بسكين الصبر كعكتها الخامسة والخمسين من المنتصف، نصفاً قدمته للأصدقاء ونصفاً للعمل، لم تفكر ما الذي يمكن أن تفعله الآن في الوقت، هي التي لم تملك الوقت ولم تملأه من قبل إلا بالأمل، هي الآن بلا عمل.
فكرت وهي تلملم أوراقاً لها، شهادات شكر وتقدير وصوراً علقتها على الجدران لا تدري ماذا تفعل بها، ربما حين ترحل إلى بلاد بعيدة في البرد تلقمها لنار المدفأة. وقبل أن تباغتها نوبة بكاء قالت بحزم يا قلب لا تيأس ولا تحزن، ما دمت عامراً بالحب وقادراً على العطاء سترفع نخب الحياة وتبتهج، لا باب من أبواب الرزق يغلق في وجه أحد، إلا وفتحت السماء له من كرمها ألف باب. فاهدأ وتوكل على رازق الطير قوته ورازق النمل قوته ورازق القلب قوته، واسجد للرازق الوهاب.
فجأة تذكرت السيدة ما قاله لها الغريب حين قطع عليها خلوتها على رصيف مقهى بعيد طالبا منها الإنصات له وعدم الاستخفاف بما سيقوله، شارحاً لها بأنه لم يغادر مقعده الدافئ في المقهى ليجلس معها في البرد إلاّ ليبلغها ما ألحّت أمها المتوفاة منذ سنوات على إبلاغها به، وكانت رسائل قصيرة مشفّرة غير عادية فهمت بعضها، أما ما لم تفهمه منها فطمأنها الغريب بأن الأيام ستأتيها بتفسيرات لها تضيء طريقها مهما حلكت ظلمته، وكان كل ما قاله ينبؤها بأن ثمة حياة جديدة بانتظارها، للوهلة الأولى ظنّت أن الغريب يهيؤها للحظة موتها، لكنه أصرّ بأنها ستعيش طويلاً، وأنها سترحل إلى بلاد تحبها تمكّنها من فعل أشياء ترغبها ولم تكن صدفة بأنها كانت نفس الأشياء التي كانت أمها تريد منها فعلها وتحقيقها.
قالت لنفسها كل شيء يحدث لسبب ولعلّ أثر الفراشة الذي تركه الغريب في روحها هو ما جعلها سعيدة لأن أيام الشقاء انتهت وأنه آن لها أن تستريح من عناء الروتين القاتل في بيع السمك في البحر والصحو مبكرا وملاحقة كل صغيرة وكبيرة لتنجز المهام اليومية بإتقان لتحقيق أهداف العمل والتي ساهمت وبشكل تصاعدي في انتفاخ جيب صاحب العمل لا جيبها، ليس هذا فقط ما جعلها تشعر بالسعادة والراحة، فثمة أشياء أهم عليها أن تلتفت إليها في هذا العمر، فالصحة واللياقة البدنية والذهنية والسفر والاهتمام بعائلتها والأصدقاء والالتفات لاهتماماتها الشخصية وهواياتها أهم من كل كتب الشكر التي استلمتها طوال فترة خدمتها ونسيها صاحب العمل عند أول هزة اقتصادية لم تكن هي مسؤولة عنها وليس لها أي دخل بها، لم يحزنها الأمر قدر ما أحزنها مصير زملاء لها في العمل قضوا في ريعان الشباب بسبب الضغوط النفسية التي تعرضوا لها في ظروف مشابهة، ترحمت عليهم وتساءلت إن كانوا أكثر حظاً في مفارقة الشقاء باكراً أم أنهم كانوا أقل حظاً في الحياة؟ المؤلم هنا أنه في الموت يستوي الأمران.
في استرخاءة حقيقية على بساط من العشب الأخضر النديّ، في بلاد بعيدة تحتفي بالفصول الأربعة، أغمضت السيدة عينيها وابتسمت وهي تستمع لقصيدة جميلة بصوت الشاعر محمود درويش عنوانها «لا شيء يعجبني»:
يقول مسافر في الباص لا شيء يعجبني
لا الراديو
ولا صحف الصباح
ولا القلاع على التلال
أريد أن أبكي

يقول السائق
انتظر الوصول إلى المحطة
وابكي وحدك
ما استطعت

تقول سيدة
وأنا أيضا
أنا لا شيء يعجبني
دللت ابني على قبري فأعجبه ونام
ولم يودّعني

يقول جامعيّ
ولا أنا
لا شيء يعجبني
درست الأركيولوجيا
دون أن أجد الهوّية في الحجارة
هل أنا حقاً أنا

ويقول الجنديّ
أنا أيضا لا شيء يعجبني
أحاصر دائماً شبحاً يحاصرني

يقول السائق العصبيّ
ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة
فاستعدوا للنزول
فيصرخون
نريد ما بعد المحطة
فانطلق

أما أنا
فأقول
أنا مثلهم
لا شيء يعجبني
لكني تعبت من السفر
فأنزلني هنا
تقول السيدة إنها دمعت من شدة الانفعال والفرح حين رأت جوقة من العصافير تتمدد على العشب حولها تغرد وتردد في صوت سمائي ساحر:
ونحن أيضاً مثلها
لا شيء يعجبنا
لكننا تعبنا من السفر
فأنزلنا هنا.
copy short url   نسخ
18/01/2017
2417