+ A
A -
ترجمة: حاتم غانم
يعتقد علماء الآثار أن البشر استقروا على التلال التي أصبحت تعرف حلب والتي تبعد «225» ميلا شمال دمشق قبل حوالي ثمانية آلاف عام.
كتب الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة عندما زارها في سنة 1348: انها مدينة رائعة لا يضاهيها في جمال موقعها أي مدينة أخرى، وكذلك جمال بنائها وأحجام وتماثل أسواقها.
كانت مركزا تجاريا على طريق الحرير وورش وسوق سوريا وكانت تنتج خمسة وستين بالمائة من الثروة الوطنية باستثناء النفط، والمصانع التي تنتج النسيج من القطن السوري وكذلك الأدوية والأثاث تصدرت المناطق الصناعية خارج المدينة ووفرت العمل للألوف، ولا توجد مدينة في سوريا أكثر اختلاطا وتنوعا من حلب، وكتب السائح الإنجليزي وليام ايتون في عام 1789 عن حلب يقول:
ان شعب حلب هو الأكثر أدباً وخلقاً والتسامح هو سمتها المميزة، وشجعت حلب التجار الأوروبيين على الاتجار والسكن في المدينة وانشأت قوى أوروبية في حلب أول قنصليات في الامبراطورية العثمانية من أجل رعاية مصالح مواطنيها المغتربين. واحتفظ أحفاد ماركو بولو، أسرة ماركو بولي الشهيرة، بمكتب القنصل الفخري الإيطالي حتى القرن العشرين.
حلب اليوم
لدى عودتي بعد ستة شهور، كان مطار حلب مهجورا تقريبا، سيارات الأجرة لا وجود لها ولا يغامر أي «تاكسي» بالتواجد بدون ضمان الأجرة وهو ما فعله صديق لي على بعد حوالي ربع الميل من المطار، كانت هناك بنايات مدمرة، باستثناء مستودع تستخدمه قوات حكومية كموقع قيادة بجوار أكياس من الرمل، وبعد قطع مسافة شاهدت اطارات محترقة وكتلا وحطاما من الاسمنت، محطات البنزين عبارة عن حطام وشاحنات البنزين محترقة بالقرب من العراق وفي وسط المدينة كان هناك بعض الباعة الذين يعرضون أصنافا من البنادورة والبطاطا والباذنجان.
تجولت مع صديقي في حي السليمانية والجديدة والذي أصبح عالما مختلفا، سيارات تسد المداخل والأضواء والأنوار معدومة.
كنت أود زيارة الأسواق في الصباح لكن صديقي أخبرني بوجود قتال هناك مما يجعل الذهاب أمرا مستحيلا خاصة وأن الأسواق فيها قد تحولت الى ركام بعد إحراقها.
في بداية عام «2015» كانت حلب منطقة رئيسية للتنافس فيما بين النظام وقوات المعارضة الطريق المؤدية إلى حلب في الشمال من حمص كانت محفوفة بالمخاطر.
تحدث تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش وحدد مئات من المواقع في حلب التي تمت مهاجمتها بالبراميل المتفجرة في غالب الأحيان على يد القوات الحكومية، ومعركة حلب توصف بأنها حرب من أجل سوريا نفسها وبالمعنى السياسي والعسكري فإن عاصمة سوريا التجارية حيوية لكلا الجانبين اللذين يقول الكاتب أنهما ينفران أهل حلب الذين يسعون في الوقت نفسه من خلال خطب وده، لأنهما يدمران اقتصاد حلب وآثارها التاريخية التي تضفي على المدينة سحرا خاصا وهوية فريدة كنموذج للانسجام الطائفي.
ماذا يقول مارغريغوريوس؟
في أوائل 2012، كان مسيحيو حلب إما مع النظام أو محايدين، على أمل تجنب إثارة انتباه أي جانب وعندما التقيت مع قسيس الأرثودوكس مارغريغوريوس يوحنا ابراهيم قال لي «هل أنا قلق؟ نعم، وهل أنا خائف، لا» وبانتهاء السنة، تحول قلقه الى خوف، وفي الليلة التي رأيته فيها وهو يختبئ بين جدران بيته بوسط حلب، كان قد تلقى صدمة لتوه. قال لي «كنت متفائلا خلال الأسابيع الماضية، لكنني زرت مدرستي اليوم واكتشفت انه من بين خمسمائة وخمسين طالبا لم يتبق سوى خمسين فقط، والى جانب ذلك، فإنه اكتشف أيضا ان عشرين من طائفته يتسلمون يوميا تأشيرات الى دول أجنبية، وقد حوله انهيار المدرسة من رجل مرح كما كان في اكتوبر الى رجل مهزوز فاقد للأمل.
وقال لي ان القضية الآن تتمثل في كيفية إقناع الرئيس بالتنحي، وكانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها من أسقف مسيحي يدعو بشار الأسد لإنهاء الحرب من خلال التنحي عن الحكم.
«3» فئات
وسوريا مقسمة إلى ثلاث فئات مؤيدي النظام المقاومين والمعتصمين الذين ينتظرون النتيجة قبل أن يختاروا أي جانب. ومعظم الذين تحدثت معهم في المعسكرات الثلاثة رفضوا التدخل العسكري من جانب الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا وتركيا لحل المشاكل.
واحد من قلة من النشطاء الذين سمحوا لي بذكر اسمائهم هو زيدون الزعبي البروفيسور في الجامعة العربية الأوروبية في دمشق، طرد من وظيفته لأسباب سياسية في فبراير من عام 2011، وقال لي بلهجة يغلب عليها الحزن «حلب دمرت والبلد كله قد دمر»، اعتقلت قوات الأمن الزعبي، وبعد شهر من اطلاق سراحه غادر البلاد.
ترى ماذا سيقول الشبان السوريون لأبنائهم عندما يكبرون؟ كل واحد منهم بالتأكيد لديه حكايته وهم يختبئون داخل بيوتهم الواهنة من سقوط القنابل سواء انتهى بهم المطاف في مخيمات اللاجئين، أم انهم هربوا عبر البحار الغادرة ليعيشوا في أراض غريبة حياة مجهولة المصير.
محنة بلا نهاية
السوريون اليوم يعانون ويكابدون محنة وحشية لا نهاية لها، غزو الجراد عام 1915 وتخزين التجار القمح في بيروت فاقم وزاد من خطورة القحط إلى حد أنه حدثت حكايات وقصص عن أكل لحوم البشر، وكتب حنا مينا الروائي السوري في روايته «شذرات من الذاكرة» يقول: أثناء سفر برليك تحولت أمهات إلى أشبه ما يكون بالقطط وأكلن أبناءهن، نصف مليون من أصل اربعة ملايين من سكان سوريا الكبرى ماتوا جوعا، ومن المرض والعنف.
إن السنوات الأربع ونصف منذ مارس 2011 تعيد معاناة قرن مضى سوء تغذية، مجاعة، أوبئة، نزوح ورحيل معظم سكان مناطق في سوريا الى اطراف أخرى في الداخل أو بلاد أجنبية، عذاب الأطفال، وتفضيل دول كبرى الانتصار على حياة السكان ومعيشتهم وما فيهم خير لهم. الحرب في سوريا تتجه نحو عامها السادس دون أن يلوح في الأفق أي نهاية لها. ألوف المستشارين العسكريين الروس ينضمون للحرب نيابة عن بشار الأسد، مثلما فعلت إيران ووكيلها اللبناني حزب الله منذ البداية، دون ان يكون لدى أي من الجانبين القوة أو القدرة على هزيمة الآخر، والشبان السوريون يهاجرون ومن بقي من هؤلاء هم أبناء بلا اخوة الذين لا يمكن تجنيدهم وفقا للقانون السوري الذي يقر بأن فقدان الابن الوحيد معناه نهاية الأسرة.
السفيران الأميركي والفرنسي
كان مؤيدو انتفاضة 2011 يتصورون نصراً سريعاً على الديكتاتور على غرار ما حدث في تونس، ومصر وليبيا، وقال لي صديق سوري يعيش في المنفى الآن إن السفير الأميركي روبرت فورد، قبل أن يرحل عن دمشق في أكتوبر 2011، حاول أن يأخذ موافقته على الاشتراك بحقيبة وزارية في حكومة قال له إنها ستحل قريباً محل الأسد. وعندما غادر السفير الفرنسي لدى سوريا اريك شيفالييه دمشق يوم السادس من مارس 2012، قال لأصدقائه إنه سوف يعود عند تشكيل حكومة تخلف الأسد «خلال شهرين».
وفي الحرب التي دخلت عامها الخامس ولم تترك شيئا في المجتمع السوري كما كان قبل الحرب، فإن السوريين يسألون أنفسهم بطريقة أو بأخرى، كيف وصلنا إلى هنا وإلى أين نحن سائرون؟ لماذا عمد النظام في 2011 إلى إطلاق الرصاص على متظاهرين لم يكونوا مسلحين ولا يطلقون النار على الحكومة؟ وكانت الولايات المتحدة قد شجعت المعارضة من البداية، حسبما ذكرت صحيفة «الغارديان» البريطانية يوم الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2011.
الضابط الإيراني جوال
الجيش السوري تطلع نحو إيران وحزب الله من أجل تعزيزه ودعمه بالرجال والسلاح ويعتمد الآن على طهران في التخطيط واعتماد الاستراتيجية في حرب البقاء، قرارات الحرب الرئيسية المهمة تأتي من جانب الجنرال قاسم سليماني قائد قوات الحرس الثوري الإيراني، بدلا من ضباط سوريين فقدوا مصداقيتهم. وفي حلب يتحدث المواطنون عن ضابط إيراني يدعى «جوال» ويقود ميليشيات شيعية من إيران، العراق وأفغانستان ولبنان ضد مجاهدين من السنة.
وقال لي رجل أعمال «إن معظم الناس يشعرون بأننا تحت الاحتلال الإيراني وأشار صاحب محل بقالة في المدينة القديمة إلى رجال ميليشيا عند حاجز تفتيش قرب محله، وقال ان شيعة من خارج سوريا يسيطرون على الحي الذي يسكنه.
رئيس يخشى الله
الغرب وحلفاؤهم المحليون يعانون بسبب النتائج «غير المقصودة» لسياساتهم، وارتكب بشار الأسد بدوره غلطة عندما سمح لقواته الأمنية باطلاق النار على متظاهرين غير مسلحين، معتقداً بأنه مثلما حدث في الماضي، فإن الخوف سيدفعهم إلى العودة لمنازلهم، لكنهم لم يفعلوا، وبدلا من ذلك اختاروا الحرب. شارك ايليا سمعان العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يسعى لتوحيد دول سوريا الكبرى، في المظاهرات المبكرة ضد النظام في 2011، وفي غضون شهر من المسيرات الأولى في درعا، اكتشف تغيرا مهما: يوم الثامن عشر من ابريل، وفي مظاهرات جرت في حمص كانت أكبر لافتة حملها المتظاهرون تقول «لا لإيران، لا لحزب الله، إننا نريد رئيسا مسلما يخشى الله».
وهذه العبارة «رئيس مسلم يخشى الله» كانت ترمز الى سني مسلم يحل محل الأسد كرئيس لسوريا، التي يشكل السنة فيها سبعين بالمائة من السكان.
آخر تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة عن سوريا يرسم صورة كئيبة عن العذاب الذي يكابده السكان هنا. النظام يقصف حلب وغيرها بالبراميل المتفجرة وأجهزته الأمنية تمارس التعذيب بشكل غير مسبوق. ان تقرير الأمم المتحدة لجرائم الحرب المروعة يجب أن يكون كافيا للقوى الخارجية حتى تتزحزح وتعمل على وقف هذه الحرب .. ماذا ينتظرون؟!
copy short url   نسخ
11/01/2017
566