+ A
A -
- سمر الأشقر
دق جرس الباب في وقت متأخر من الليل، نحن لا نستقبل زوارا في هذا الوقت لذا نهضنا فزعين من نومنا لفتح الباب. رأينا أم محمد مبللة بالمطر ترتجف ولا تقوى على التنفس من شدة البرد. دعوناها للدخول وبدأنا بإعداد مشروب ساخن لها ثم بحثنا عن ثياب شتوية على مقاسها لتبدل بها ثيابها الرثة المبللة.أخبرتنا أن العاصفة أغرقت منزلها والفراش الأرضي الذي تنام عليه هي وأحفادها كما بللت الأغطية التي تدفئهم، قالت: لم يعد هناك شيء صالح للاستخدام واعتذرت عن قدومها المفاجئ في هذا الوقت من الليل اذ لم تجد من تلتجئ إليه سوانا وبكت وهي تطلب المساعدة في تجاوز المحنة وبرودة الليل القارص كي تقي صغارها شر البرد والمرض.
نعرف هذه السيدة منذ أكثر من عشرين عاما، هي امرأة حرة وبسيطة تعمل في مساعدة البيوت الموسرة في الأعمال المنزلية والطبخ في الولائم، لتوفر مصروف عائلتها وعائلة ابنها التي تسكن معها، الجميع يحبها لصدقها وإخلاصها وأمانتها وتفانيها في العمل.
أحضرنا لأم محمد الأغطية الصوفية التي نستخدمها في الشتاء وبعض الملابس الشتوية ولم ننس أن نلف رأسها بشال صوفي يقيها من البلل كانت أمي رحمها الله تتلفح به أيام البرد، لفت انتباهنا حذاؤها الصيفي المبلل، الحذاء يشي بتضخم قدميها من كثرة المشي والسعي وراء رزقها، وأحذيتنا عالية وضيقة وصغيرة على قدميها ولن تحل المشكلة، نبشنا خزانة الأحذية وتنفسنا الصعداء حين عثرنا على حذاء جديد لأبي الراحل، انحنيت على الأرض عند قدميها وألبستها جوربا صوفيا سميكا وشعرت برجفة جسدها وهي تستغفر الله وتجر قدميها للوراء من شدة الحرج، لكنني لم أتراجع ولم أرتح إلا حين ألبستها حذاء أبي وأحكمت رباطه وتأكدت أنه سيقيها من البرد والبلل، اعطيتها مبلغا من النقود قبل ان تغادر وهي تدعو لنا بالصحة والخير وتمطرنا ببركاتها ودعواتها.
تركت دموع ام محمد في عيوني أسئلة كثيرة لم تزل تشغل بالي حتى هذه اللحظة حين غطت موجة بيضاء الأرض، ومرّت على ريف إدلب وحلب.
الموجة البيضاء أخفت قرميد المنازل المدكوك بالأرض، برك الدم المسفوك عليها، بقايا الأشلاء وأكوام الجثث.
وكأن الموت صار أبيض ليكشف سوأتنا وسواد قلوبنا ويبرز ما تكدس فينا من عفن، لنكتشف أن السواد في عيوننا عبء زائد لأننا أطبقنا جفوننا عليه ونمنا كي لا نرى ما لم تره عين من قبل من أهوال وفظائع وجرائم، كي لا نرى الدمار المزلزل والموت المحدق بأهالي تلك المناطق.
كان لا بد للبياض أن ينهمر كي يذكرنا أن ثمة شعبا غادر وطنه وصار مشرداً ولاجئاً وجائعا وخائفا ومهزوماً ومهمشاً وأننا نغض الطرف عن معاناته كي لا نثقل كاهلنا بالذنب، فليمت منهم من يمت وكأن النصف مليون ممن قضوا ظلما وعدواناً رقم هين يمكن تجاهله، لكننا ومهما تضاعف العدد سنحافظ على حيواتنا كما قدر لنا، ننعم بالسكينة والأمان.
لنا الأوطان ولهم الشتات، لنا البيوت ولهم الخيام، لنا المرافئ ولهم مقابر البحر، لنا الدفء ولهم الصقيع والبرد، لنا الماء الزلال ولهم الوحل، لنا مصادر الرزق ولهم وكالات الغوث وهيئة الأمم.
copy short url   نسخ
11/01/2017
2088