+ A
A -
بقلم: د. سعاد درير

تَدَاخَلَ عند الشابّ تيرود الفرحُ والأسى: الفرح لرؤية نوميديا الشابة الحسناء، والأسى لرؤيتها عمياء بينما عيناها تقولان للقمر: «انْزِلْ لِأَحلَّ مَحَلَّك».
حاول الشابّ تيرود أن يَنْطِقَ بكلمة، لكن الحُروفَ ضاعت وتَبَعْثَرَتْ، وعجز لسانُه عن الكلام.. وبعد أن كرَّرتْ نوميديا سؤالَها «مَنْ؟» بنبرة حزينة مؤثرة، أجاب تيرود بصوت متقطع: «هذا أنا، تيرود».
بِشِبْه ابتسامةٍ حزينةٍ رَدَّتْ نوميديا وقد دمعتْ عيناها، فما كان من الشاب تيرود إلا أن تناول يَدَهَا لتتكئ على يده ويُخْرِجَهَا من ذلك الجحر المظلم.. طيلة هذه الفترة كانت فرينودا منشغلة بالخدمة غير منتبهة لما يحدث، بينما أَجْلَسَ الشابُّ تيرود نوميديا على مصطبة جانبية قبالة النخلة التي قبل أن يَغْرِسَهَا الأبُ مالبو منذ زمن بعيد كانت نوميديا قد سقطتْ في حفرتها. تَأَمَّلَ تيرود النخلةَ التي كبرتْ، وتأمل كذلك نوميديا التي كبرتْ وشرع يُشَجِّعُها على الحكي لتقصَّ عليه ما جرى.. وما أن أحسَّتْ نوميديا بالأمان وشرعتْ تحكي حتى دمعتْ عينا الشابّ تيرود، ولم يكن المسكين في حاجة إلى أن يخفي دموعه عن نوميديا، ببساطة لأن نوميديا كانت عمياء.
بعد انتهاء فترة الأصيل كان الشابّ تيرود رفقة والديه في البهو بعد أن أعاد نوميديا إلى غرفتها. وعند حديثه مع أبويه حاول تيرود أن يستفسر عن أكثر من أمر من الأمور التي حَلَّتْ بأهل مالبو.
في صباح الغد نزل الشاب تيرود باكرا، تناول جرعتين من القهوة، طبع على وجهي والديه قبلتين، وخرج مسرعا.. بعد الظهيرة عاد تيرود وقد أنهى التَّباحُثَ في شأن مقرِّ عمله الجديد الذي كان قد بدأ يتدبّر أمرَه مع صديقه «فُولْطْ» قبل عودة تيرود إلى البلاد.. والآن بعد أن عاد تيرود، صارت الأمور مُرَتَّبةً، وافتتح الشابُّ مَقَرَّ عمله.
قضى تيرود فترةَ المساء مع والديه.. وكانت هناك مفاجأة من العيار الثقيل حين طلب الشابّ تيرود من والديه أن يُزَوِّجَاه بنوميديا.. كم كانت دهشةُ السيد نيتشو والسيدة كوما كبيرة حين قال تيرود ما قاله، ليس لأن نوميديا كانت خادمة في المنزل، فوالداه على درجة كبيرة من الوعي والتفهُّم، ولكن لأن نوميديا الآن عمياء.. فكيف يعقل أن تتدبَّرَ شابة عمياء أمورَها؟ فما بالك أن تتدبر أمور زوج وأسرة وأبناء!
دون أن يُكَلِّفَ تيرود نفسَه العناء الكثير تمكن من إقناع والديه بأن أمر زواجه من نوميديا لا يحتمل المناقشةَ، وقد اتخذ تيرود قرارَه النهائي ببساطة لأنه وقع في حُبّ نوميديا منذ اللحظة التي رآها فيها بعد عودته من سفره الطويل.
وحقا تستحق نوميديا حُبًّا كبيرا كالحُبّ الذي يُكِنُّه لها الشابّ تيرود، ليس فقط لأنها ذات جمال يأسر القلوبَ والعيون، ولكن أيضا لأنها فتاة طيبة وحنون ومطيعة، وأكثر من هذا فإنها تحمل قلبا في منتهى الرقة، إنه قلبُها الذي لا يعرف الكراهية ولا الحقد، قلبها لا يعرف إلا الحُبّ والإحسان لكل إنسان.
لم يجد السيد نيتشو والسيدة كوما حَرَجًا من زواج ابنهما تيرود بنوميديا طالما أن تيرود يتقبَّل نوميديا بالوضع الذي هي عليه، إنه العمى.. لكن شيئا واحدا كان ينقص قبل أن يُقْدِمَ الشابُّ تيرود على أي خطوة.. ما هو يا ترى هذا الشيء؟ إنه يتعلق بالشمطاء فرينودا التي جَنَتْ على عيني أجمل فاتنة: نوميديا.. لِنَرَ إذن ماذا فعل الشابّ تيرود وأي قرار اِتَّخَذَ.
مرة أخرى دون أن يُكلِّفَ تيرود نفسَه عناء الربط والحلّ في الكلام فإنه ببساطة صرف مكافأةً لفرينودا هي مكافأة نهاية الخِدْمَة، وأرسلها إلى القرية التي جاءت منها، ولم يعاقبها بالمرة لأن نوميديا تَعتبر فرينودا في كل الأحوال زوجةَ والدها مالبو، وما يضرُّ مالبو يضرُّ زوجتَه. هكذا كانت تُفَكِّرُ نوميديا. ألم أقل لكم إن نوميديا تحمل أَرَقَّ قلبٍ ينبض بالحُبّ للجميع؟! نعم، هي كذلك فعلا نوميديا.. لذلك فإن تيرود لم يَشَأْ أن يتسبَّبَ لِفرينودا في ما يلحق بها الأذى إكراما لسنوات الخدمة التي قَضَتْها في المنزل.
في الليلة نفسها خرجت السيدة كوما من منزلها، اقتربتْ من الحديقة الجانبية، طرقتْ بابَ الغرفة المظلمة منذ فارقها نورُ عيني نوميديا. تساءلتْ نوميديا من يكون هذا الطارق بالليل! لِلتَّوّ أجابتها السيدة كوما مُعْلِنَةً قدومها لنبإ سَارٍّ.. نهضتْ نوميديا، تحسَّستْ بيديها الجدرانَ حتى بلغت البابَ، فتحتْه، دَلَفَت السيدة كوما، وكانت ابتسامة عريضة قد ارتسمت على شفتيها. من سوء حظ نوميديا أنها كانت عمياء حتى فاتتها فرصةُ قراءة هذه الابتسامة في وجه السيدة كوما.
ضَمَّة حُبٍّ حنون طويلة ضَمَّتْ بها السيدة كوما نوميديا، وسألتْها سؤالا واحدا:
«هل تَقْبَلِين تيرود زوجا لك وتعتبرينني أُمَّكِ»؟
تداخل عند نوميديا الفرحُ والخجلُ، لم تَقْوَ المسكينة على النطق بكلمة واحدة من وَقْع المفاجأة، لكن السيدة كوما قرأتْ علاماتِ القبول في وجه نوميديا الطفولي.
مرة أخرى أزاحت السيدة كوما خصلات الشعر الكستنائية عن وجه نوميديا، وضَمَّتْها ضمَّةَ حنان استغرقتْ وقتا، وقالت لها بنبرة رقيقة: «مُبَارَك لكما يا ابنتي».
منذ تلك الليلة التحقتْ نوميديا بالمنزل الفخم وهَجَرَتِ الغُرْفةَ التعيسة التي تجرَّعَتْ فيها مرارةَ معاملة زوجة أبيها لها.. ومنذ تلك الليلة تَأَبَّطَتِ السيدةُ كوما ذراعَ نوميديا واصطحَبَتْها معها إلى داخل المنزل، وعَيَّنَتْ لها الغرفةَ الجديدة والأنيقة التي ستصبح خاصة بها ريثما يُحَضِّرُونَ لمراسيم العرس.
صبيحة اليوم الموالي اقترح تيرود على أبويه أن يصطحب نوميديا في جولة لتغيير الجوّ وشراء بعض الأغراض. لم يمانع الوالدان نظرا إلى ثقتهما الكبيرة في ابنهما تيرود، وأوصياه خيرا بنوميديا.
فَتح تيرود بابَ السيارة لنوميديا التي أصبحتِ النورَ الذي يرى به تيرود الحياةَ، ما هي إلا ثوان حتى أدار مُحَرِّكَ السيارة وانطلقا بعيدا. بضعة دقائق وتتوقف السيارة بجانب بناية شاهقة. نزل تيرود، حاول الإمساكَ بيد نوميديا حتى لا تَتَعَثَّرَ، صعدا المصعد، ثوان قليلة ويصل إلى مَقَرّ عمله، يدخل تيرود ممسكا بيد نوميديا، يُحَيِّي صديقَه فولط، ثم يدلف تيرود ونوميديا إلى غرفة خاصة، يُجْلِسُها على كرسي ضخم، يُقَرِّبُ منها آلةً متحركة، يضع ذقنَ نوميديا فوق جزء من الآلة المتحركة، يراقب عينيها ويتفحصهما مرارا مُغَيِّرا وضعية الآلة بين الحين والآخر. بعد المحاولة والأخرى تبتسم عينا تيرود ويبتسم فمُه، يَشْبِك يديه وأصابعَه مُعْلِنًا «وَاوْ!».
تندهش نوميديا مما يحدث ولا تُحَرِّكُ ساكنا، يَخْرُجُ تيرود إلى حيث التقى بصديقه فولط، يَتَّصِلُ تيرود بوالديه ليخبرهما بما يحدث، يطيران فَرَحًا، يضع تيرود السمّاعةَ، يصافح فولط وكأنه حَقَّقَ انتصارا عظيما، يعود إلى الغرفة حيث توجد نوميديا، سرعان ما يلتحق السيد نيتشو والسيدة كوما بالعيادة التي افتتحها ابنُهما تيرود.
يُجَهِّزُ تيرود كلّ شيء، تطلب السيدة كوما من نوميديا أن تتمدَّدَ على السرير لفحص طبي لا أكثر، يَخْرُجُ السيد نيتشو والسيدة كوما، يدلف إلى الغرفة فولط الذي سبق أن هَيَّأَ لتيرود ظروفَ العودة إلى الوطن، وفولط هو نفسه الزميلُ والطبيب الجَرَّاحُ الذي سيساعد تيرود في العملية الجراحية التي لم يُبَرْمِجْ تيرود لإجرائها لنوميديا، لكن شاءتِ الظُّروفُ أن تكون هذه أول عملية جراحية يُجْرِيها تيرود في بلده وتتعلق بعيني نوميديا.
بعد تخدير جزئي، يشرع الطبيبان الجَرَّاحان في العمل بمنتهى الدقة، وبعد الانتهاء يتركان المريضةَ تستريح. إنها نوميديا صاحبة أجمل عينين.
بعد وقت مَرَّ على انتهاء العملية يعود تيرود ليتفحص الحالةَ. كذلك يأتي السيد نيتشو والسيدة كوما لزيارة نوميديا. ثم تأتي اللحظةُ الحاسمة التي يستعدُّ فيها تيرود لإزالة الضِّمَادَتَيْن عن عيني نوميديا.
تتوجَّهُ السيدةُ كوما بالدعاء إلى الله، كذلك يفعل السيد نيتشو.. ما هي إلا دقائق حتى يُزِيلَ تيرود الضّمادتين، نوميديا لا تُحَرِّكُ ساكنا، السيد نيتشو ينظر إلى زوجته يائسا، السيدة كوما تنظر إلى ابنها متأثِّرةً أشدّ ما يكون التأثُّرُ، الذهول نفسه ينتقل إلى تيرود الذي ينظر في وجه نوميديا مندهشا حائرا، نوميديا لا تُحَرِّكُ ساكنا، تَرْفَعُ يديها لتُخَبِّئَ فيهما وَجْهَها ثم تضع يديها متشابكتين بالطول على صدرها ناطقة بكلمة واحدة:
«أُمِّي»!
يُصِيبُ الذهولُ السيدةَ كوما، ثم سرعان ما تنطق نوميديا بالكلمة الثانية:
«أَبِي»!
هكذا تتوجه نوميديا ببصرها إلى حيث يقف السيد نيتشو، حينها فقط يصرخُ تيرود:
«نَجَحْنَا»!
يصرخ تيرود مرارا مُعَبِّرًا عن فَرَحِه بنجاح العملية الجراحية التي تُعَدُّ الأولى في البلاد، وبذلك تُحَقِّقُ تَقَدُّمًا ملموسا في مجال طِبِّ العيون.
في غمرة فَرَح تيرود بنجاح العملية يَضُمُّ السيد نيتشو والسيدة كوما ابنتَهما نوميديا شاكرين الله على هذا العطاء بينما تَقِفُ دموعُهما عند طرف العين، في حين ينظر تيرود بطرف عينٍ إلى زوجته الحسناء وكلّه فرحة، إنها فرحة عودة الحياة إلى عيني نوميديا في الوقت الذي تُبْصِرُ فيه نوميديا زوجَها للمرة الأولى.
في تلك اللحظة تُحَيِّي نوميديا تيرود بيديها المتشابكتين بالطول شاكرةً له فضله، بينما يهِمُّ السيد نيتشو مُهَرْوِلاً إلى ابنه لِيُعَانِقَهُ وهو يقول له بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ:
«كُنْتُ أَعْلَمُ أنّني أَنْجَبْتُ رَجُلاً يُعَوَّلُ عليه».
ويتعانق الأبُ وابنُه بِحُبٍّ يُعِيد الإحساسَ بدفء العائلة.
ما هي إلا أيام حتى يُسْمَعَ في المنزل وقعُ مراسيم الاحتفال بالعروسين تيرود والحسناء نوميديا التي تملك العالَمَ بنظرةٍ من عينيها الآسرتين، عزف وطبل ورقص وغناء، ووَعْد مُتَبَادَل بين تيرود ونوميديا على أن يعيش كلّ منهما للآخر وعلى ألاَّ يفارقَ أحدُهما الآخرَ في سَرَّاء ولا في ضَرَّاء.
«مُبَارَك عَلَيْهِمَا».
copy short url   نسخ
28/05/2016
2667