+ A
A -
حبشي رشدي
لم تلعن الظروف التي جعلتها في طفولتها «سارحة أغنام» ترعاها مع جدها الكهل تحت سفوح الجبال، وفي أرض خضراء ممتدة تجود بالعشب، وتملأ رئتيها بهواء نقي، ولم تظن في طفولتها أنها ستصعد صعودا صاروخيا في بلد المهجر «فرنسا»، وأنها ستُصبح وزيرة التعليم في دولة من كبرى دول أوروبا، بلد نابليون بونابرت الذي قصدته في طفولتها البكر، وهي لا تدري أي مستقبل ينتظرها، وقد استطاعت أن تكتب اسمها بحروف من ذهب، وأن تتبوأ أعلى المناصب في فرنسا رغم أصولها العربية.
هي «نجاة بلقاسم» أو «نجاة فالو بلقاسم» وزيرة التعليم الفرنسية المغربية الأصل، والتي أصبحت حديث وسائل الإعلام الفرنسية لفترات طويلة نظرا لكفاءتها وجهودها الكبيرة لنشر المساواة بين جميع أفراد المجتمع.
في بلدة تدعى «بني شيكر» بمدينة الناظور بمنطقة الريف شمال المغرب، المنطقة التي لا تفوقها منطقة في العالم- ربما- في تصدير شيئين: المهاجرين والحشيش، هناك ارتأى القدر أن يكون مولدها بقرية ريفية يغلفها الفقر من كل جانب، بدأت طفولتها بمرافقة جدها وهو يرعى الماعز على سفوح الجبال التي تحيط قريتها في عزلة تامة عن العالم، وتجلب الماء مع أختها الكبرى من الساقية، حينها تحكي أنها لم تكن تشاهد على الطريق غير المعبد سوى سيارة واحدة في كل شهر.
بعد أن بلغت الخامسة من عمرها، التحقت نجاة بلقاسم مع والدتها وأختها الكبرى بالأب، الذي كان يعمل في قطاع البناء بفرنسا، والدها كان واحدا من بين القرويين البسطاء الذين استقدمتهم فرنسا لإعمار أرضها، بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة تماما، انتقلت أسرة بلقاسم إلى حي متواضع بمدينة أبيفيل شمال فرنسا قبل أن تتحول مرة أخرى إلى مدينة أميان لتبدأ حياتها.
تقول نجاة: إن أباها كان صارما معها، ولم يكن ليسمح لها بالخروج إلى غير المدرسة أو بمقابلة الشبان، ومن ثمة كانت الكتب ودراستها بالنسبة لها هي الملاذ الوحيد لتشبع خيالها ورغبتها في الاكتشاف، ما إن بلغت الثامنة عشرة حتى أنهت فتاة الريف البسيطة مرحلة الثانوية وحصلت على الجنسية الفرنسية، وأصبح لها خمسة أشقاء بالإضافة إلى أختها الكبرى.
وتؤكد نجاة أنها تتقن التحدث «بالريفية»، حيث مازالت تستعملها خلال جلساتها العائلية، ومازالت الكثير من مشاهد وذكريات الطفولة طازجة في ذاكرتها.
ولجهة والدتها تقول نجاة: كانت أمي تقول لي لا تقلقي إن بالحياة خيالا وأحلاما أكبر مما تتصورين، وتقول أيضا: كانت المدرسة- بحق- العنصر الأساسي في تكوين شخصيتي ورسم مسيرتي الحياتية، لقد سمحت بإثراء ذاتي وتعلم الكثير.
كما تقول: إنه لولا المدرسة والتعليم لكانت الآن ربة بيت منحصرة في حدود بيتها فقط، أو عاملة بسيطة في مصنع بئيس في أحسن الأحوال، لقد أمدتها المدرسة كما تقول بالقوة اللازمة لكيلا ترضى أن تعيش مستبعدة، أو تستسلم لخطاب الضحية كما يفعل الكثير من أبناء المهاجرين.
دخلت نجاة كلية الحقوق وتحصلت على شهادة البكالوريوس، ثم حظيت بالقبول بالدراسة في معهد الدراسات السياسية بباريس، المدرسة الولود للنخب الفرنسية المتعاقبة على مراكز القرار بدءا من فولتير إلى فرانسو هولاند، هناك التقت زوجها الفرنسي بوريس فالو الذي تزوجته في 27 أغسطس 2005، وهو أحد المقربين من الرئيس هولاند ويشغل حاليا منصب نائب كبير الموظفين بقصر الإليزيه أنجبت منه توءماً، وتعرفت هناك أيضا على شخصيات النخب الفرنسية، التي ستكون المفتاح لشق طريقها في ما بعد.
وبعد تخرجها في كلية باريس للدراسات السياسية المرموقة في عام 2000 بعد حصولها على شهادة في القانون في جامعة بيكاردي في أميان، حصلت كذلك على شهادة البكالوريس في علم الاجتماع الاقتصادي في عام 1995، وفي سن الـ 18 حصلت على الجنسية الفرنسية.
بدأت نجاة بلقاسم حياتها المهنية كمحامية في مكتب محاماة باريس ثم انتقلت إلى مجلس الدولة ومحكمة النقض لمدة ثلاث سنوات، وعندما دخل الرئيس هولاند الانتخابات الرئاسية في 2012، عينها في منصب المتحدثة الرسمية باسم الحملة الانتخابية وعقب فوزه بالرئاسة، عينها في منصب وزيرة حقوق المرأة والمتحدثة الرسمية باسم الحكومة، وفي 26 أغسطس 2014، تم تعيينها وزيرة التربية الوطنية والتعليم العالي لتصبح أول سيدة تشغل هذا المنصب في تاريخ الجمهورية.
نجاة الشابة المغربية المهاجرة (36 عاما)، اعتبرت لفترة من الزمن، أحد النجوم الصاعدة في الحزب الاشتراكي الفرنسي الحاكم.. واليوم، في الوقت الذي تنظر فيه فرنسا إلى مدارسها للمساعدة في التعافي من آثار الانقسامات الدينية والعرقية، تقبع الوزيرة الشابة تحت ضغوط هائلة لإثبات استحقاقها لمنصبها الرفيع.. قد تبدو أفضل تأهيلا من غالبية الوزراء الفرنسيين في معرض وصولها إلى الشباب المغترب، حيث قضت سنواتها الأولى والكثير من الإجازات الصيفية متحدثة باللغة الأمازيغية في مزرعة جدتها في شمال المغرب ثم ترعرعت في أحياء فرنسا الفقيرة.. لكن مع ذلك، ترفض فالو بلقاسم الاعتراف بأن أصولها تميزها عن باقي السياسيين.. فهي تدين بنجاحها وبمنتهى الامتنان إلى نظام التعليم الفرنسي.
مع سعي الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند مع رئيس وزرائه مانويل فالس إلى تعزيز القدرات الاستخبارية الفرنسية وتوسيع الصلاحيات الشرطية في الدولة التي تشن حملتها الموسعة ضد الإرهاب، كلفت فالو بلقاسم بمهمة بناء جسور التواصل مع ملايين المغتربين من الشباب المسلم الفرنسي، وبعض هؤلاء رفض بالفعل المشاركة في دقيقة الصمت الوطنية حدادا على ضحايا هجمات «شارلي إيبدو».
وأعلنت فالو بلقاسم عن خطة بقيمة 250 مليون يورو (285 مليون دولار)، لتدريب المعلمين الفرنسيين على مناقشة العنصرية ونقل قيم «الحياة الفرنسية» سويا في قاعات الدراسة.. وتقول فالو بلقاسم: «ليست العائلة فقط هي المعنية بنقل القيم، ولكن المدرسة مطالبة أيضا بالقيام بهذا الدور». ومع خروج فرنسا من كارثة هجمات «شارلي إيبدو»، فإن التقارير المدرسية حول الطلاب المسلمين الرافضين لإحياء ذكرى الضحايا تسلط مزيدا من الضوء على عمق الانقسامات الضاربة في المجتمع الفرنسي.
وكانت انتخابات عام 2002 نقطة تحول بالنسبة لها.. لم تكن لدى أسرتها اهتمامات سياسية قط.. ولقد أصابتها لعنة السياسة حين تمكن المرشح الرئاسي للجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة من اكتساب ما يكفي من الأصوات لدخول جولة الإعادة.. فانضمت إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي على أمل أن تحدث فرقا ما.. وقالت فالو بلقاسم: «كنت خجولة ومتحفظة للغاية، ولذلك كان أمرا يتعارض مع شخصيتي أن أنخرط في العمل السياسي.. لكنني قررت أن أعلن التزامي مدى الحياة بمحاربة الظلم الاجتماعي، ومناهضة عدم المساواة، وكان ذلك هو السبب وراء كوني يسارية حتى النخاع».
سرعان ما ارتقت نجاة السلم السياسي، حيث كانت في الفترة بين 2004 و2008 مسؤولة عن السياسة الثقافية في منطقة رون - الب.. وكانت حتى عام 2013 عضوا في مجلس مدينة ليون.. وفي 2007، كانت المتحدثة الرسمية باسم المرشحة الرئاسية للحزب الاشتراكي، سيغولين رويال، التي خسرت الانتخابات الرئاسية أمام نيكولا ساركوزي.
لم يرحب الجميع في فرنسا بصعود فالو بلقاسم الصاروخي في عالم السياسة.. فقد وجه المسلمون في فرنسا الانتقادات إليها إثر دعمها للخط العلماني الفرنسي على حساب الإسلام.. ونفت فالو بلقاسم ذلك بشدة حيث قالت: إنها «خففت من القيود المفروضة على الأمهات المسلمات المرتديات للحجاب خلال الأنشطة المدرسية، مثل الرحلات الميدانية». كما هوجمت فالو بلقاسم من قبل وسائل الإعلام المحافظة، حيث وصفوها بـ«آية الله»، ورأوا أن تعيينها في منصبها الجديد بمثابة «استفزاز» وسط توقعات من جانبهم أنها تسعى لأسلمة المدارس الفرنسية.. وكان ردها عن طريق تأمين تمرير القوانين التي تعكس الليبرالية العلمانية للحزب الاشتراكي الحاكم، بما في ذلك حظر المضايقات الجنسية وتدابير تعزيز المساواة بين الجنسين.
في الوقت الذي تعترف فيه فالو بلقاسم بأن مسارها يبدو غير اعتيادي بالنسبة لكونها من المهاجرين إلى فرنسا، إلا أنها تشجع باقي الأطفال المهاجرين على عدم التخلي عن أحلامهم.. وتقول أخيرا: «ليس عيبا أن نفشل طالما أننا نستمر في المحاولة.. لقد كانت أمي دائما تقول لي: لا تقلقي، إن بالحياة خيالا وأحلاما أكبر مما تتصورين».
وتعترف نجاة بلقاسم بأن مسارها يبدو غير اعتيادي بالنسبة لكونها من المهاجرين إلى فرنسا، إلا أنها تشجع باقي الأطفال المهاجرين على عدم التخلي عن أحلامهم قائلة: «ليس عيبا أن نفشل طالما أننا نستمر في المحاولة، لقد كانت أمي دائما تقول لي لا تقلقي، إن بالحياة خيالا وأحلاما أكبر مما تتصورين».
وفي أحد الأيام وهي تسافر على متن الطائرة من مدينة بورتو إلى باريس، التقت بلقاسم صدفة المرشحة الرئاسية بسيغولين رويال، وعرضت عليها حينئذ قيادة حملتها الانتخابية لرئاسيات 2007، كانت تلك هي الفرصة الأولى التي سيسطع نجمها في سماء السياسة الفرنسية، خسرت المرشحة رويال بفارق طفيف أمام نيكولا ساركوزي، لكن رغم ذلك فقد ربحت نجاة سمعة جيدة في الأوساط السياسية والإعلامية، إذ أظهرت أمام وسائل الإعلام كفاءة خلال الدفاع عن برنامج المرشحة رويال، فكان ذلك بالنسبة للكثيرين مدعاة للفخر، وفتح أمامها الباب على مصراعيه نحو المشهد السياسي الفرنسي.
«إنها تفور حيوية، وتبدو سعيدة بدفء الناس، لا يطالها الإجهاد أو الهستيريا»، هكذا كانت تخبر سيغولين رويال فرانسو هولاند قبل ولوجه قصر الإليزيه، فقد كانت المرشحة رغم خسارتها ممتنة لأداء نجاة بلقاسم خلال حملتها الانتخابية.
كانت البداية صعبة بالنسبة للوزيرة الجديدة حينها، فلم يكن مرحبا بها من قبل الجميع، لقد كانت تماما مثل قطعة حلوى بين مطرقة وسندان، فمن جهة، اليمين المتطرف يهاجمها على أساس أصولها المهاجرة، واتهمتها الأصوات اليمينية المتطرفة بأنها تسعى «لأسلمة المجتمع الفرنسي»، ومن جهة ثانية أيضا كانت الجالية المسلمة بفرنسا التي تنتمي إليها تتهمها بـ«اتباع الخط العلماني وتشجيع الفجور»، لكن ما كان يهم نجاة بلقاسم أكثر، كما تقول، هو العمل على أساس القيم الليبرالية التي تضمن حقوق وحريات الجميع على قدم المساواة كما يجسدها برنامج الحزب الاشتراكي.
عينت عقب التعديل الحكومي في أبريل 2014 كوزيرة للمرأة والشباب والرياضة، ثم بعدها أودعت إليها وزارة التعليم في حكومة مانويل فالس الحالية، ساعدتها في الوصول إلى ذلك خبرتها التي راكمتها طوال سنوات الدراسة والعمل السياسي، بيد أن وسائل الإعلام ترجع نجاح مسيرتها الوزارية إلى جاذبيتها والأناقة التي تتحلى بها الشابة علاوة على براعتها في الإقناع.. وأيا ما كان فيبدو أن ما حققته من شعبية تحسد عليها جعل نجمها يسطع بقوة في المشهد السياسي الفرنسي، حتى إن صحيفة لوفيغارو وصفتها بـ«التلميذة المتفوقة ضمن تلاميذ فرانسو هولاند!».. كما ألف الصحفيان فيرونيك برنهايم وفالنتين سبيتز كتابا يحكي قصتها بعنوان «نجاة فالو بلقاسم: غزالة في بلد الفيلة».
تقول وزيرة التعليم بفرنسا معلقة على نزعة التطرف والعنف التي انتشرت في أبناء المهاجرين هناك: إنها نفسها كانت معرضة للنشأة وسط مشاعر السخط والغضب بسبب التهميش والاستبعاد في بداية حياتها، مضيفة: كنت لأرضى بتقمص دور الضحية، بيد أن ذلك لم يكن ليجدي نفعا، إن بعض التمييز في بلاد المهجر لا يمنع النجاح، لذا أدعو أطفال المهاجرين ألا يتخلوا عن أحلامهم.
copy short url   نسخ
27/05/2016
4750