+ A
A -
بقلم : د. سعاد درير
- هل يَقْوَى قَاطِعُ لَيْلٍ على أن يُطْفِئَ بأصابعه العَشرَة شمعةً تَمُدُّها له يَدُ القَدَر..؟
صباح الحَرف.. مساء الحَرْف..
للرسائل لُقيا ومرافئ ممتدة، ولعُشَّاقِها على امتدادِ بحرِ الحرفِ سلام ومودة.
بأنينِ وترٍ حزين وَدَّعَنا بوحُ مي ونحن نُغَالِبُ الشوقَ إلى خيمتها وقد أَسْرَجَ في طلبها فرسان الحرفِ خيلَهم التي ما زادتها رائحة مي إلا صهيلا.
كم من جبران دفَنَه حفَّارُ الحرفِ في مقبرة الأيام..!
كم من عقاد سقط في بحر الأوهام..!
وكم من غسان غَرِقَ بين غادةٍ وغرام..!
بعيدا عن خيمة مي ومُريديها، اشتعلتْ غابةُ العشق بيومياتِ حبيبةٍ من الضفة الأخرى أَبَتْ إلا أن تُجادِلَ حبيبَها بمنطق القلب المصلوب على شجرة الشوق.. إنها غالا التي أبدَعَتْ في كتابة الرسائل بقدر ما أبدعتْ في الحُبّ، كيف لا والحُبُّ سيد الفنون وأرقّها وأرقاها..
غالا هذه، لا غرابة أن تحمل بين يديها كَفَنَ أشواقها في طريقها إلى من تفانى في ذبحها بخنجر قلبِه الذي مَلكَ مفاتيحَها، ومن ثمة تفنن في عبور مدينة الإحساس الرابضة بين ضلوعها، فصال وجال، وشغل البال.. ليس بآخَر هو سوى الفرنسي العاشق إيلوار.
إيلوار الذي وعد غالا بالجنة المفقودة كشفَتْ لنا رسالة من غالا إليه أنه أحبَّ فيها حالةَ الحُبّ وليس الحبيبة.. وما أسوأ حال حبيبة تكتشف أنها مجرد وسيلة أو جسر أو سلم يتوسل به الحبيب رغبةً في قطف تفاحة الحُبّ.
إن ما يفتقده إيلوار هو طعم التفاحة، طعم تفاحة الحُبّ، وليس التفاحة في حدّ ذاتها.. فإن غابتْ تفاحة حضرت الأحلى منها، وإن ذبلتْ تفاحة حلَّتْ محلها الأكثر نضجا وطراوة..
وهكذا، أكّد إيلوار لحَسْنَائِه غالا أن العبرةَ بموسم التفاح وليس بحبّاته التي لا تختلف الواحدةُ فيها عن الأخرى أنوثةً وإغراءً وإسالةَ لعابٍ لمن لا يؤمن بالاختلاف..
لكن هل كان صدقا هذا ما فكر فيه إيلوار وبثَّه إلى فَتاته غالا حتى تتأثر بهذا الشكل وترد على رسالته بطريقة لا تخلو من قسوة على نفسها (غالا) وعليه؟!
هل هي شكوك المرأة التي تُفسِد فرحتَها بحالة الحُبّ؟!
هل هو جحود الرجل الذي لا يُحِبُّ سوى نفسه؟!
هل هي عاطفة المرأة المتعطشة للمدح والثناء وتكرار الكلمات نفسها التي تتوجها أميرة مدلَّلة؟!
هل هي رغبات الرجُل التي تَسحق إحساسَه بقلب أنثى بعينها ينبض له كما لم ينبض له سواه؟!
هل هو الاختلاف البَيِّن بين إحساس الرجل بالمرأة والعكس صحيح، ومن ثمة اختلاف التعبير عن الحُبّ واختلاف الطريقة أو الشكل الذي يحيا به كل منهما قصة حُبِّه؟!
الواضح من خلال كتاب رسائل إيلوار وغالا، الكتاب الذي اختار نصوصَه وقَدَّم له عصام محفوظ، أن رسائل كل من إيلوار وغالا تكشف بالحجة والبرهان اشتعال النيران في صدريهما حنينا إلى الآخر وذوبانا في حُبِّه.
ولا يختلف اثنان في أن حروف الرسائل تتسلل عارية إلى محيط العينين اللتين تذوبان ذوبانا واحتراقا بحرارة الحرف الذي يَرفع رايةَ الحُبّ ويَرفع القبعةَ لشاعره الرقيق إيلوار الذي كاد يُصيبه الخبل حُبّاً لها وتَوَلُّهاً يُعادل تَوَلُّهَها إليه؟
أوليس هو من أَضْنَتْه رحلةُ انتظاره لها وترقُّبِه لقمرِ العودة الميمونة التي تَزفُّ عروسَ الفرحة إلى قلبه المرهَق شجنا وحزنا على قريبة نأتْ بها مسافات الشوق عن عينيه؟!
يقول إيلوار في أروع ما كتب من شعر يهجس فيه بتوقه إلى فاتنته غالا:
»أُفتش عنك عبر الانتظار
عبر نفسي
ولا أعود أعرف لشدة ما أُحِبُّك
أيّنا الغائب» ( قصيدة: الجبين على النافذة، كتاب قصائد حُبّ ورسائل إلى غالا، اختيار وتقديم: عصام محفوظ).
تأملوا هذا البوح الرقراق كنهر والعذب ككأس ما أحلاها!
لكن السؤال: مَن يُصَدِّق بأن الطرفَ الآخر يُبادله الحُبَّ واللوعةَ ويقاسمه الإحساسَ ويضيء له كشمعة؟!
رسائل غالا رغم قِلَّتِها تقول شيئا واحدا: إنها تُحِبُّ رَجُلَها إيلوار:
»أعطيك حياتي كلها كلها لأجل أن تكون راضيا» (كتاب: قصائد حُب يليها رسائل إلى غالا).
ورسائل إيلوار على كثرتها لا تقول سوى شيء واحد: إنه يحب أنثاه غالا:
«عندما أستيقظ وعندما أنام وكل لحظة أردد في نفسي اسمك: «غالا»، يعني أحبك يا غالا، منذ عشرين وأنا أحبك.» (قصائد حُبّ يليها رسائل إلى غالا).
ولْننظرْ كيف أن إيلوار الهائم في دنيا الهوى يُقَبِّلُ بحروفه ( الذائبة عشقا لسيدة قلبه غالا) أَقدامَ قلبِها عَلَّها ترضى عنه وتنتشله من جحيم الأشواق التي لَفَحَتْه وامْتَحَقَتْهُ.
إيلوار الخبير بوجع الهوى ودلال المحبوبة لا يجرؤ على أن يقول لحبيبته غالا إنها مُتعِبة كما يفعل بعض العشاق الذين يُصَوِّرُ لك عقلُك أنهم لم يبلغوا سقفَ العشق حقيقةً.
فهل هو كذلك فعلا أمر ما يتوهمونه؟!
أم أن هؤلاء الذين ذهبوا غير مذهب إيلوار لا يرون في الحبيبة أكثر من رقمٍ يُؤجِّج حالةَ الحُبّ التي يرون فيها مظلَّة تُنقِذ أوقاتهم من وطأة القيظ العابث بقميصِ روحِ الواحد منهم.
أهناك أسوأ من قيظ الروتين والجفاء والجفاف القلبي الذي يأكل إحساسهم بالكينونة وصَبْوَتَهم إلى موعد يضربه لهم معه الانتشاءُ الذي يُعفيهم من الانزلاق في نهر الرثاء، رثاء الحال؟!
لذلك ينقص هؤلاء الإحساس بقلب الحبيبة المفردة بصيغة الجمع، هذه الحبيبة التي تختزن في قلبها شوقَ النساء، وتختزل كلَّ النساء في المرأة التي تَكُونُها.
وهو بالتأكيد ما تحقق للعاشق إيلوار، إيلوار الذي أدرك في أنثاه غالا شمساً تُشْرِق على الغرب، شمسا إذا طلعَتْ توارت الكواكب مستحية غير بادية.
مجنون مَن يقول لبحر الحُبّ: «اِرْحَلْ»..
مجنون مَن يقول لشمسِ أنثى تُضِيءُ عالَمه: «اِرْحَلي»..
فهل يجرؤ إيلوار على أن يقول لِمَلِكَته غالا: «ارْحَلي»؟!
ولْنَفرِضْ أنها (شمسه) ضاقتْ بلامبالاته وتوهَّمَتْ (متورطةً في قول ما لا تفعله يقينا) أنها قادرة على أن تغرب عن عُشِّه، فهل يجرؤ هو (إيلوار) على أن يقول لها: «اغربي كما تشائين» ويُسْقِطها من حقيبةِ زمنه كأن شمسَه لم تَكُنْ؟!
وهل يَقوى قاطِعُ لَيلٍ على أن يُطْفِئَ بأصابعه العشرة شمعةً تَمُدُّها له يَدُ القَدَر ليُسْكِتَ أمعاءَ جوعِه إلى الضَّوء ويُخْمِدَ جَذْوةَ عطشه إلى شَرْبَةِ نُورٍ؟!
إيلوار الذي أدماه قيدُ النوى، لا يعرف سوى الغرق في الهوى، الغرق الذي يُعادل درجةَ الحُلول في روح المعبود. هكذا تكون حال إيلوار السالك في طريقه إلى معارج العشق ومدارج التوحد.
ولاحِظوا هنا كيف جزم إيلوار وأكد وحسم في رسالة تخترق الروحَ كالصرخة:
»يستحيل أن نفترق» (كتاب: قصائد حُب يليها رسائل إلى غالا).
الحُبُّ الذي لا يهزُّ عرشَك ولا يزلزل الأرضَ تحت قدميك، سَمِّهِ أي شيء إلا أن يكون حُبّاً..
الحُبُّ الذي لا يجعلك تغتسل صباح مساء تحت غيمة الأشواق، سَمِّهِ أيّ شيء إلا أن يكون حُبّاً..
الحُبُّ الذي لا ينشرك على حبل الغسيل ولا يجمعك ولا يطويك، سَمِّهِ أيَّ شيءٍ إلا أن يكون حُبّاً..
الحُبُّ الذي لا يُذيبك كقطعة شوكولا بين شفاه الرغبة، سَمِّهِ أيَّ شيءٍ إلا أن يكون حُبّاً..
الحُبّ!
الحُبّ وما أدراك ما يَكونه عاشق متيم بحجم صاحبنا إيلوار، إيلوار العاشق الذليل الذي يستسلم عن طيب خاطر لسوط الهوى.
فماذا فعل به سوطُ الهوى في حضرة غالا؟!
أَهَوى به سوطُ الهوى؟!
إذا سألنا أهلَ الهوى، سيقولون إن سوط الهوى كلما جَلَدَ إيلوار أنطقَه شعرا لم يكتبْه عاشق لحبيبة، لم يكتبه سوى فنّان بإحساسه، فنان صَقَلَتْه التجربةُ، تجربة العشق.
وماذا بوسع عاشقٍ أن يقولَ أو يَفعلَ أمامَ امرأةٍ تملِكُه وتُديره كما تُدير جهازا عن بعد؟!
تَصَوَّرْ عزيزي ما تكون حالُك حين تقول لك من تهواها ما قالته غالا لمولاها:
»بدونك أُصْبِحُ «ظرفا» فارغا» (قصائد حُب يليها رسائل إلى غالا).
أثمة ما يمكن أن يقال بعد ما قالته غالا؟!
إنها بذكائها تُذيب قطعةَ قلبِه (إيلوار) فوق صفيح حروفها المشتعلة، فكلما أظهرتْ له وتظاهرتْ بأنه يملكها مَلَكَتْه.
فهل تصدقون أن غالا ملكتْ روحَه وقلبَه وإحساسَه؟!
نعم، صَدِّقُوا أنه إحساسه الذي ازداد رهافةً بحُبّ غالا له، كيف لا وهي خلقَتْه كائنا شعريا يُجيدُ الغَزَلَ، وإذا قال قَتَلَ..
أن تَكونَ عاشقا وشاعرا في آنٍ مثل شاعرنا إيلوار، فهذا يعني أنك ملكْتَ السماءَ والأرضَ، ونلْتَ ما تمنيتَ.
ولا ينفي إيلوار نفسُه إلى أي مدى كانت لفَتاته غالا سلطة على ما أبدعه من أشعار ما كان ليَفرحَ بها ويَنْعمَ بها ويتلذذَ قُرَّاؤه لولا شمس غالا التي أشرقَتْ على سماء الكتابة في حياته، فأبهر بذوقه الأخَّاذ، وفتح البابَ لإمتاع قُرَّائه وسَلَبَ الألبابَ.
ولا غرابة أن يَكون الجميل في كل هذا أن يستمتعَ الشاعر بما يُمْتِع به الآخرين. فحتى في قمة عذابه وتشظيات ذاته يتلذذُ الشاعرُ ببلورة كل ذلك الألم الذي يَغْرِفُ منه ليُحْيي بأنفاس قلمِه القلوبَ.
لهذا فإن الألمَ منه تنبثق الحياةُ الماثلة في تأثير قِطَعٍ أدبية يَتُوق إليها القُرَّاءُ الحالمون الباحثون في النص عن اللذة الفنية التي تُنْعِش عروقَهم المتيبِّسة.
ولا يُنْكِرُ إيلوار أبدا، بل إنه يقولها صراحة بأن ثناءَ غالا وحرصَها على تفجير مكنون ذاته جعل منه شاعرا بامتياز، يكتب برقَّةٍ ينبض لها كُلُّ حرفٍ من حروفه التي يُكَرِّمُ بها معبودتَه الغالية غالا:
«يا غاليتي إنني فخور كملك بكلامك الحلو عن شعري. إنه المديح الوحيد أهتم له. ولأجلك سأنكب من جديد على الكتابة» ( قصائد حُب ورسائل إلى غالا).
حقا، ما أجمل الحُبّ حين يُثْمِرُ كُلَّ هذا الجَمال الذي تَأَنَّقَ به شعرُ إيلوار، فعرف طريقَه إلى القلوب التي كان يفتحها بابا بابا دون استئذان!
لذلك أخلص إيلوار لحبيبته غالا، غالا التي أَنْسَتْه غيرَها من نساء وكأن الأرضَ ابتلعت جنسَها اللطيف، وما تركتْ لذكور الأرض سوى غالا، غالا التي كان يتنافس عليها المتنافسون.
أتصدقون أن ركضَ الذكور خلف غالا وصل إلى درجة أن واحدا منهم تجرّأ واعتدى على إيلوار؟!
إنه ماكس ارنست الذي أَحَبَّ غالا، ولأن للحُبّ الكلمةَ الأولى والأخيرة، فقد رأى إيلوار من الضروري أن يمتثل لأمر الحُبّ الذي جعله يتريَّثُ في قراره قبل أن يتطاول على من يهمُّ أمرَ حبيبته.
يقول إيلوار نفسُه في رسالة إلى غالا متحدثا عن ماكس الذي تردد هو في رد الصفعة له إكراما لمشاعر غالا:
«إذا كنتُ سكت عليه ولم أنتقم منه فلأني فكرتُ فيك. كنتُ أريد قتلَه، إلا أنني أدركتُ أن هذا سوف يسبب العذابَ لك» (قصائد حب ورسائل إلى غالا).
هكذا احترم إيلوار الآخرين الذين تقربوا إلى غالا (بعد فراقها عن إيلوار)، وأحبّ من أَحَبَّتهم. هذا ما يُجبرك عليه الحُبُّ مهما اعترضَتْ دواخلك ومانَعَتْ.
وماذا بوسع عصفور (أطاح الحُبُّ بجناحيه) أن يفعل في حضرة أنثى صَيَّرَت العشقَ داءً ودواءً، ونَذَرَتْ حروفَها على امتداد رسائلها لخدمة رسالة الحُبّ التي آمنتْ بها كما آمن بها توأم روحها إيلوار؟!
أوليس إيلوار الملك الذي يركع لمعبودةٍ تركع له حروفُها؟!
كيف لا وهي القائلة في رسالة:
«كلمة واحدة منك تشفيني أنا المريضة» (قصائد حب ورسائل إلى غالا).
وهل من مرض أشدّ وقعا من الحُبّ أيام كان للحُبّ صوت يهزّ الجبلَ وقدمان تحرثان أرض الحياة وتزرعان الأمل؟!
سكرة الحُبّ جبارة، جبارة، تمسحك مسحا فتزيل آثار كل من عرفتهن من نساء قبل أن تعرفَ الحُبَّ..
سكرة الحُبّ تبعث الدفءَ في القطب المتجمد الذي كان يسمى قلبك، قلبك مع وقف التنفيذ..
سكرة الحُبّ تضخّ الحياةَ في عروقك التي ما كنتَ تحس بها، أو أحسستَ بها في زمن مضى، وحَسبْتَها ماتت وتاريخها انقضى..
هكذا أنطقَتْ رسائل إيلوار وغالا شاعرا رقيقا، ما أرَقَّه من شاعر وقد استدرجَتْه ضَربةُ الهوى إلى كتابة أحلى شعر ما فتئ يذكر بأن غالا كانت مُلْهِمته.
يقول شاعر الحُبّ والرومانسية إيلوار في حروف أطيب من فَوحِ مسكٍ وأندى من ورقةِ وَردٍ:
«لا رغبة لي سوى أن أحبك» (قصيدة: حميمات، كتاب: قصائد حب ورسائل إلى غالا).
إنه في كلمات قليلة يُطَوِّقُ عنقَ حبيبته بقلادة المجد ويُتوِّجها أميرةَ قلبه وقلمِه الذي نزف أحلى شعر. لذلك قليل على إيلوار أن يفنى في حب أنثى ليس من العدل أن يفعل شيئا سوى أن يُحِبَّها.
أفلا تستحق غالا أن يَعْبُدَها رَجُل في رِقَّةِ إيلوار ويعشقها عشقا خرافيا فجّرَ حدودَ العشق في خرائط أدب العشق؟!
عن هذا وذاك نواصل الكلامَ السبت المقبل بإذن الله.. سعيدة بوصالكم.. وتحية لحقيبة سمير.
copy short url   نسخ
22/10/2016
3953