+ A
A -
حين نسافر إلى بلد أوروبي أياً كان في إجازة قصيرة، نبهر بما نراه من طبيعته الخلابة وخضرته ومائه وحدائقه ووروده، ونستمتع ببرودة طقسه وبأمطار صيفه الناعمة ونسعد بحمل مظلات لا نحسن استخدامها، ونفتن بفنون عمارته بكل ما فيها من عراقة واصالة وذوق رفيع، نلتقط صورا كثيرة أمام تماثيل ونوافير اشتهرت بها تلك البلاد ونمضي معظم اوقاتنا في التجوال بين الأماكن السياحية والأسواق وزيارة المعالم والآثار وتذوق أشهى المأكولات التي اشتهرت بها ونخرج بانطباعات ايجابية عن رحلتنا حاملين معنا هدايا وتذكارات وصوراً كثيرة تذكرنا بالأوقات السعيدة التي أمضيناها في ربوعه، لكن لا شيء يضاهي عودتنا لأوطاننا وبيوتنا واهلنا وأحبابنا.
في أسفارنا تنكشف أمامنا ايجابيات البلد الذي نقصده، فالسائح في رحلته القصيرة لا يرى الا أماكن الجذب السياحية ومواطن الجمال ولا يحتك بأهل البلد إلا في نطاق ضيق وفي حدود تلبية احتياجاته، وقلما يخرج السائح بصداقات حقيقية تربطه بأهلها إلا فيما ندر. وتبقى أمور السائح سهلة وميسرة طالما تجنب الوقوع في مشاكل عملا بالمثل الشعبي «يا غريب، كن أديب»، لأنه لو حدث وخرج عن حدود اللياقة والادب أو خرق القانون سينكشف له الوجه الآخر لتلك البلاد والذي يجهل كيف ستكون نهايته فيها. بحلول سبتمبر شهدت بعض الساحات الهامة في روما وبقية المدن الإيطالية استنفاراً ملحوظا لقوى الأمن المدججة بالسلاح خوفاً من أي هجوم انتحاري- إرهابي، وشوهدت مدرعات الجيش وهي تذرع الساحات أو تتخذ مواقع استراتيجية تمكنها من السيطرة على أي وضع غير طبيعي يخشى حدوثه، وكأن سبتمبر بات غولا يؤرق الغرب حتى بدؤوا يحسبون لقدومه ألف حساب. لم يضايقني مشاهدة مظاهر الاستنفار الأمني في ساحة الدومو بمدينة فلورانس طالما أنها تحقق الأمن والسلامة للجميع، بقدر ما ضايقني هجوم اثنين من رجال الأمن على شاب بنغلاديشي كان يبيع عصي السيلفي ومعاطف النايلون للسائحين، انقضوا عليه كما ينقض الصقر على الطريدة، ضربه أحدهما على صدره ليجرده الآخر من حقيبة صغيرة كان يعلقها على أحد كتفيه، وبدأ بنبش محتوياتها بعصبية، ولم تكن تحتوي على شيء سوى الأوراق الرسمية وبعض المال الذي يتكسبه من السائحين، ورغم ذلك جرّه الاثنان بصورة فظة وغير حضارية أمام الجميع من الساحة إلى حيث يركنان الحافلة الخاصة بالشرطة، لم يبد الشاب المسكين أية مقاومة وخضع لتفتيش دقيق دون أن ينبس بكلمة وأخرج من ذات الحقيبة التي نثرها الشرطي قبل قليل أوراقه الثبوتية، لكن الشرطي أصر عليه أن يركب الحافلة للتحقيق معه، هنا أكملت طريقي، بعد ساعتين فيما أنا عائدة للفندق رأيت الشاب يبيع البضاعة ذاتها في نفس الشارع، لم أستطع أن أمنع نفسي من الاقتراب منه والاطمئنان عليه، سألته إن كان بخير، لم يعِ سؤالي، أوضحت له أنني شهدت ما فعلته الشرطة به، ابتسم بامتنان واضح قائلا: لا تقلقي انها اجراءات روتينية يتكرر حدوثها للمهاجرين أمثالي. في المساء ذهبت إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات جراء وعكة صحية، وكان الانتظار في بهو المستشفى تجربة مثيرة بحد ذاتها، حيث انكشف لي قبح ما يدور في المدينة ليلاً، إذ إن معظم الحالات الطارئة التي أدخلت إلى قسم الطوارئ بصورة عاجلة كانت لشبان وشابات تعاطوا جرعات مضاعفة من المخدرات أدخلتهم في غيبوبة أو تسببت لهم بحالة هستيرية مصحوبة بهلوسات وتشجنات وبكاء وعويل وحركات دفاعية لا إرادية جعلت بعضهم يقعون عن الأسرّة المتحركة التي تم إحضارهم بها. أحزنني رؤية سيدة ثلاثينية ترتدي ثيابا سوداء يتوسطها جمجمة كبيرة، ونقش على ما بدا أمامي من جسدها وشوم شيطانية ملونة بالأحمر والأخضر الداكن، كان شعرها مصبوغا بأحمر ناري فيما نهاياته تشتعل بلون بنفسجي فاقع، ووجهها مزين بأقراط فضية لا أعرف كيف أمكنها ان تحتمل كل تلك الثقوب في أنفها وشفتيها ولسانها وحاجبيها لتثبيتها وأي قيمة جمالية يمكن أن تضيفها كل تلك الثقوب والأقراط إلى وجهها الممتقع والمسحوب منه لون الحياة هذا عدا الهالات السوداء التي تحيط بعينيها لكثرة ما تتعاطاه من مخدرات، تلك السيدة أثارت رعب الجميع بدلا من الشفقة عليها بسبب عنفها والشتائم التي أمطرت العاملين بها أثناء محاولتهم توثيقها بالسرير لمنع حركة يديها ورجليها العصبية والتي تعيق عملية إسعافها، اقتربت منها وهالني منظر الثقوب في قدميها وساقيها ويديها والتي خلفتها إبر الهيروين المخلوط بمواد سامة قيل لي إنها تحتوي على مواد وسموم منها سم الفئران والذي يتسبب في شلل مؤقت للأطراف مما يستدعي إحضارها إلى الطوارئ في كل مرة تحقن نفسها بها، وأنه بمجرد عودة الحياة لأطرافها تهرب من المستشفى لرفضها التام للعلاج، وليس ثمة قانون يفرض عليها العلاج وإعادة التأهيل ما لم تكن هي راغبة به. وهذا ما حدث بعد ساعتين، فكت وثاقها وفرت دون أن يوقفها أحد. توالت الحالات ولفت نظري وجه الشابة العشرينية المحدقة في الفراغ فيما لسانها تدلى بصورة غريبة من بين شفتيها واستقر على الجانب الايمن من وجهها، سمعت الطبيبة تطلب من المسعفين تركها في الممر ومراقبة حركة تنفسها لحين تصحو، كي لا يتسبب وجودها في غرفة الإسعاف أي إرباك للمرضى الآخرين ممن يحتاجون لعلاج فوري، وهالني ان أدرك بأن المدمنين بسعيهم الدائم للمخدرات يتسببون بفقد جزء من إنسانيتهم وبحق الأولوية في العلاج. أما السائحة البريطانية التي بدا من مظهرها ومظهر صديقاتها اللاتي رافقنها للمستشفى، وما ارتدينه من ثياب فاضحة تكشف أكثر مما تستر، بأنهن كن يمضين سهرة ماجنة انتهت بجرعة زائدة من المخدرات لم تحتملها الفتاة، وانتهت بها في قسم الطوارئ، كانت حمالات ثوبها قد انحسرت عن كتفيها وبدا عريها فاضحا وجلياً للجميع. شعرت بالأسف على حالها وعلى حال أهلها حين هاتفتهم مطمئنة إياهم بالقول انها اضطرت للقدوم إلى المستشفى نتيجة التواء كاحلها، فيما كانت منذ قليل تصرخ بهستيرية بأنها لا تريد ان تموت وأنها لا تريد أن يعلم أهلها بشيء مما حدث لها، ورغم عريها الباذخ ودموعها السخية، لم يتعاطف معها أحد.
هذا غيض من فيض من قاع مدينة كنت أظن أنها مثالية في جمالها وروعتها، رأيتها في النهار شيئا، وفي الليل بدا لي وجهها الآخر، وعلى كثرة الملائكة التي كانت تطل علي من مبانيها نهارا إلا أن قبحها في الليل وكثرة شياطينها جعلني أغادرها على عجل. مع امتناني للجهود التي تقدمها مستشفى سانت ماريا نوفيلا الحكومي للسائحين مجاناً من دون تكليفهم أية أعباء مالية وهو أمر لا يحدث في أكثر البلاد العربية ثراء. السيدة الوحيدة التي جعلتني ابتسم خلال رحلتي، اسمها ليزا، في الرابعة والتسعين من العمر تملك محلا للتحف والهدايا بنفسها في واحد من اهم أسواق روما، تحتفظ بابتسامة دائمة رغم خلو فمها من الأسنان، سألتها إن كانت استمتعت بأوقاتها خلال حياتها المديدة، مطت شفتيها آسف نافية واخبرتني بأنها لم ترقص ولم تسكر بأمر العسكر أي منذ أصدر الرئيس موسوليني قرارا بعدم جواز الرقص أثناء الحرب العالمية الثانية بحجة أنه لا يجوز للطليان الرقص والناس تموت، ورغم انتهاء الحرب وإعدام موسوليني منذ عدة قرون إلا ان ليزا لم تزل ممتنعة عن السهر امتثالا لتلك الأوامر مما جعلني أحسه داعشياً بامتياز، إذ لم يبدد موته مخاوف ليزا من بطشه، تماماً كمخاوف الغرب من يوم 11 سبتمبر.
copy short url   نسخ
28/09/2016
2880