+ A
A -
لأنَّ الشاي مشروبٌ وافدٌ على صحْراء شنْقيط، العالمة، المتدَيِّنة، كانَ لا بُدَّ أنْ يُثيرَ داخلَ المجتمع جدَل الحلال، والحرام، وبما أنَّ علَّة السُّكْر، مَنَاطَ تحْريم الخمْر، منتفيةٌ عنه تماما، فقد التمَسَ الجانحون إلى التعفُّفِ عنه، عِللا أخْرى، مثل إضاعة المال، وإهدار الوقت، غير أنّ مُدْمِنِيه لمْ يُقَصِّرُوا في دحْض كلِّ الشُّبُهَات، المُثارة حوْل مشْروبهم المُحَبَّبِ، فهو من الطيبات من الرزْق، التي لا سُلْطانَ لأحَدٍ على تحْريمها، ما دامَ الله قد أحَلَّها لعباده، وعلى العَكْس من إضاعة الوقْت رَأوْه مُساعدا حتَّى، على الدراسة والعبادة، والأذكار، كل تلك السِّجالات كانتْ تدورُ بلُغة الشعْر، لُغَةِ القوْم، المُهيْمِنَة على كل الخطابات الفقهية، والعلمية، والتاريخية...، فهذا أحَدُ الشعراء المُدْمِنينَ، يجعل العِلْمَ والشايَ شرْطيْ وُجُودٍ، للحياة الطيبة، ويعتبرهما معًا مترابطيْن وجودا وعدما:
فلا عيْشٌ يطيبُ بغيْر عِلْمٍ
وكأسٍ في العِظَامِ لها دَبيبُ!
فلوْلا الكـأسُ مـا شُرِحَتْ صُدورٌ
ولوْلا العِلْمُ ما عُرِفَ اللَّبيبُ!
وهناك آخرُ، يرُدُّ على مُسَفِّهِي الإنْفاق عليْه، مُعتَبِرًا بذْله فيه لكلِّ ما جمعتْ يداهُ هو عيْن الرشاد، مُصِرًّا على تَمَادِيه، في تعاطيه، مهْما يكنْ:
إنْ تُسْلِنِي عنْه فلسْتُ بِمُنْسَلٍ
أوْ تدْعُنِي عنْه فلسْتُ بِمُنْدَعِ!
وهذا البيت الأخير، يجسد صوت أغلب الموريتانيين، حتى الآن.
وعندما أراجعُ علاقتي الشخْصية بالشاي أجِدُها تأطَّرَت بقوة في هذا السياق، منذ طفولتي، عمْريا، وشعْريا، حيث كنتُ- ومازلتُ- مُدْمِنًا للدرْس، والكأْس، كأس الشاي طبْعا، ولا يروقُ لي أحَدُهمَا دون الآخر، لكنَّ مُشكلتي أنني أحْتاج إلى من يُعِدُّه لي، لا سيما عندما ينام الجميع، وهنَا أذْكر أني قد سجَّلتُ أزْمَتي هذِه في إحْدى بواكيري الشعْرية:
ألا قائمٌ للشاي.. يَضْربُ أكْؤسا
فيطْردُ أحْزانًا.. ويُبْهِج أنْفُسا؟
لقدْ طابَ حسْوُ الشاي.. فاصْبُبْه واسْقِني
مدَى الليْل ما يعْنيكَ كوْنيَّ مُفْلِسا
ودعْ عنْكَ تذْكِيري بما قدْ شَرِبْتُه
من الصبْح حتَّى الآنَ.. لسْتُ مُوَسْوِسا
وهَات.. وهَاتي.. أكْؤُسا.. ثُمَّ أكْؤُسًا
فإنَّ حَياتي أكْؤُسٌ.. هَاتِ أكْؤُسا
ومازالتْ مُشْكِلَتي المُزْمِنَة تِلْك قائمة، حتَّى أنني ارْتَجَلْتُ في السنَة الماضية، هذه الأبيات الخفيفةَ، مُداعِبًا أحَدَ الإخْوة، عندما استبطأتُ تقديمه لكؤوس الشاي:
أيُّهَا الكَاسُ.. البَــطيءُ
انْتَظَرْنا!.. هل تَجِــيئُ؟
إنَّ عَيْـشًا- دُونَ شَـايٍ-
لا هَنِــــيء.. لا مَرِيءُ!!
وأنَا.. مُدْمِنُ كَــــاسٍ
جَـلَّ إدْمَانِي.. البَريءُ
إنَّمَا الشَّـــايُ.. وقُودِي
وبِهِ.. رُوحِي.. تُضِيء
وإذَا مَـــــا لَــــمْ أجِدْه
خيَّمَ الطقْسُ.. الرَّدِيءُ
فتَــــدَارَكْنِي.. بكـاسٍ
عَلَّنِي –نحْوِي- أفِيئُ
copy short url   نسخ
26/09/2016
2765