+ A
A -
أحتاج إلى النوم يومين كاملين لأستعيد نشاطي، أترنح من التعب، أشعر بثقل في جفوني يمنعني من فتح عينيّ بصورة طبيعية، أفتقد نظرة الدهشة الطفولية التي تطل منهما، أفتقد تلك الالتماعة وذلك البريق اللذين يعكسان فرحي وبهجتي، ربما لا شيء يسرني الآن، أو لأكن أكثر دقة، قليلة هي الأشياء التي تفرحني الآن، وليس ثمة أمر شخصي يمنعني من الفرح سوى انني صرت اكثر ارتباطا بالعالم حولي، والعالم صار أكثر وحشية من قبل، الحروب، الثورات، البلطجة الظلم، الكوارث، الزلازل، الفيضانات، الخراب، الدمار، الفقر، المجاعات، كلها أشياء تحاصرني بدءا من فنجان القهوة الذي أشربه في الصباح مع الجريدة إلى نهاية يومي وأنا جالسة أمام التلفاز أقضم شريحة الخبز المحمصة مع الجبنة البيضاء والبطيخ، مشاهد الدمار على الشاشة تؤلمني جدا ولا تسد شهيتي لكنها تذكرني بكلمات جدتي رحمها الله في المصائب والمحن «الدنيا أخر وقت» وتعني بها «نهاية العالم».
جدتي التي لم تر نصف ما رأيناه من كوارث وحوادث تنبأت بنهاية العالم، فالعالم بالنسبة اليها هو حدود مدينتها «جرش»، لكنها رأت في حرب أيلول الأسود عام 1970 والتي دارت معظم معاركها في أحراش المدينة، نهاية العالم، لم تعرف بأن تلك الحرب التي دارت رحاها بين فريقين أحدهما كان يرتدي الكوفية السوداء والآخر يرتدي الكوفية الحمراء تشبه العاب الحروب الاليكترونية التي يلعبها الاطفال بكثرة هذه الايام من غير رقابة، يقال أن الألعاب الاليكترونية التي تروج للحروب هدفها إعداد الاطفال وتهيأتهم نفسيا لتقبل الحروب التي ستدمر عالمنا وفق مخططات الدول العظمى، كما أن تحويل العنف والحروب إلى مادة للتسلية لدى الاطفال سوف يؤدي إلى خلط كبير بين حدود الواقع والخيال لديهم وسوف يعزز لديهم الرغبة في القتل والتدمير واستخدام العنف لتحقيق انتصاراتهم الوهمية والتي يسهل تطبيقها في الواقع عند أول صدام حقيقي يتعرضون له.
في هذه الألعاب انتهاك لبراءة الاطفال وسلامة سلوكهم وتفكيرهم، فالمعروف أن الأطفال يتأثرون بكل ما يتلقونه من قول أو فعل أو مشاهدات، وهم حساسون بدرجة كبيرة، فكيف نتركهم عرضة لهذا النوع من البلطجة التي يتلقونها عبر الألعاب الاليكترونية. ثمة تجربة مهمة قامت بها مدرسة بريطانية اسمها روزي دوتون متخصصة في تعليم الاطفال الاسترخاء الذهني والسلامة النفسية، حيث قامت بإحضار تفاحتين متشابهتين في اللون والحجم والملمس، لإجراء تجربة توضح للناس التأثير النفسي للعنف والبلطجة والضرب واللوم والتقريع الذي يقع على الاطفال ورد فعلهم الصامت وامتناعهم عن الإفصاح عن عذابهم النفسي والجسدي لأحد. لاقت تجربتها المنشورة على صفحات الفيسبوك إقبالا كبيرا وحققت 150 ألف مشاهدة في اقل من ساعتين من لحظة نشرها.
تقول روزي دوتون بأنها تعمدت إلقاء تفاحة على الأرض وبدأت تردد بصوت عال بأنها تكره هذه التفاحة وتشمئز منها، وانها تكره رائحتها النتنة وملمسها الخشن كما أنها طلبت من الاطفال بأن يعربواعن كراهيتهم للتفاحة كما فعلت، بعض الاطفال نظروا إليها باستغراب متشككين من صحتها العقلية، لكنها تجاهلت نظراتهم ومررت عليهم التفاحة وأمرت كل واحد أن يسبها بطريقته، منهم من قال إن رائحتها كريهة، ومنهم من قال إنها ربما تحتوي على الدود المقزز، ومنهم من استنكر سبب وجودها في هذه الحياة.. الخ.
بعدها قامت المدرسة بتمرير التفاحة الثانية على الأطفال لكن هذه المرة ليتم اطراؤها بكلمات طيبة ولطيفة، كالقول أنت تفاحة جميلة، ما أجمل قشرتك، ما أنعم ملمسك، لونك رائع، رائحتك شهية، مذاقك حلو ونافع وصحي وهكذا، بعدها تم وضع التفاحتين على الطاولة أمام الاطفال لإجراء مقارنة بينهما في الشكل، لم يلحظ أحد أي تغيير بينهما في الشكل الخارجي، إذ لازال لهما نفس اللون والملمس والصلابة والرائحة.
قامت المدرسة بقطع التفاحة التي أحسنوا معاملتها أمام الأطفال إلى نصفين، وبدا لهم أنها ثمرة ناضجة صالحة للأكل كما يعرفونها، طازجة وشهية.
أما التفاحة التي ذمها الجميع وألقيت بعنف على الارض ونعتت بأسوأ الصفات بدت بعد قطعها إلى نصفين داكنة من الداخل وعطنة وطرية بشكل يجعلها غير قابلة للأكل وغير صحية.
إنها تجربة مثيرة للاهتمام وتشبه إلى حد كبير ما يراه أطفالنا على أرض الواقع، كما انها تكشف لنا تأثير كل من العذاب الجسدي والعاطفي الذي يمكن أن يلحق بالاشخاص الذين يتربون على البلطجة والعنف وتؤكد على أهمية إعادة تنشئة الاجيال بشكل سوي، وحمايتهم من كل اشكال العنف الحقيقي والخيالي، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.
copy short url   نسخ
31/08/2016
2944