+ A
A -
واجهت البشرية على مر العصور أوبئة وطواعين أزهقت الكثير من الأرواح، مثل طاعون عَمَواس (17 أو 18هـ) الذي أزهق الكثير من الأرواح بمن فيهم كبار الصحابة، والطاعون الكبير (سنة 749هـ الموافق 1348م) الذي عُرف في أوروبا باسم «الموت الأسود»، وراح ضحيته أكثر من ثلث سكان الأرض.
ووفقًا لما ذكره الدكتور معتز الخطيب، أستاذ مساعد في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، وأستاذ فلسفة الأخلاق بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر، قد تكون هذه الأحداث التاريخية ذات ارتباط وثيق بما نعيشه اليوم في ظل تفشي وباء فيروس كورونا (كوفيد-19)؛ لأنها جزء من الخبرة التاريخية والإنسانية للشعوب، وقال: «هذا الوباء يثير انشغالات مختلفة، منها: الانشغالات العقدية كالتفكير فيما إذا كان الوباء رحمة أم عذاب، وما إذا كان الإيمان يعصم من العدوى، والنقاشات الفقهية بخصوص أداء الشعائر والصلوات الجماعية وغلق المساجد، والنقاشات الأخلاقية التي تتعلق بأسئلة عديدة ترتبط بتحديد التصرف الأمثل في مثل هذه الحالة سواء للفرد أم المجتمع أو الدولة، وتقديم التعليلات الأخلاقية اللازمة لتسويغ فعل أو سياسة محددة، فضلاً عن أن هناك أبعادًا سياسية واقتصادية للموضوع».
وأوضح الدكتور الخطيب أن التعامل مع مثل هذه الظروف يتصل بعدة مبادئ كحفظ النفوس (الحياة والصحة)، والمصلحة العامة والمصلحة الخاصة والموازنة بينهما حال التعارض، والمسؤولية الأخلاقية تجاه النفس والآخرين، ومسؤولية الدولة تجاه المجتمع، والواجبات المهنية بالنسبة للعاملين في مجال الطب، وغيرها. كما يتصل بآداب وإرشادات وقائية أو احترازية كإجراءات العزل الاجتماعي وغسل اليدين وغير ذلك مما هو مفصل في كتب معينة تسمى كتب الآداب، فضلاً عن التوجيهات النبوية المتصلة بالطاعون تحديدًا فهناك أحاديث الطواعين التي جمعها بعض العلماء تاريخيًّا كابن أبي الدنيا (ت281هـ)، ومنها حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» وغيره.
وأضاف الدكتور الخطيب: «تثير هذه الأوبئة والأمراض تساؤلات حول المنهج الأمثل للتعامل معها، فإن تعاملنا مع مثل هذه الوقائع لا يستدعي النظر فيها من منظور طبي فحسب، بل أيضًا من منظور أخلاقي يتصل بسياسات الصحة العامة، وبأخلاقيات الأوبئة وتشمل السياسات التي يتم اتخاذها أثناء الوباء بما فيها إجراءات الحجر الصحي والعزل الاجتماعي وتقييد حركة الأفراد، وضبط تصرفات الأفراد، وتقويم الأفعال التي تتصل بحياة الإنسان وصحته، فبين الأخلاق والطب تداخل وثيق ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن السياسات الطبية تثير تساؤلات أخلاقية مثل: لمن يجب تقديم العلاج عند تزاحم المرضى وقلة عدد الأجهزة؟ هل حظر السفر وإغلاق المطارات والمساجد والأسواق مبَرَّر أخلاقيًّا؟ هل إجراءات العزل الاجتماعي والحجر الصحي مسوغة أخلاقيًّا؟ وإذا كانت مبررة فكيف نضمن وصول الاحتياجات الأساسية إلى الناس في هذه الحالة؟ كيف نحول دون وصْم الناس المصابين بالفيروس؟ ما الفضائل التي يجب على الأفراد أن يتحلوا بها في حالة الأوبئة سواء في تحركاتهم أم في استهلاكهم وتخزينهم للسلع، أو في التطوع لمساعدة الجهات الصحية إن لزم الأمر، أو في الامتثال لتعليمات الجهات المختصة. فحقل الأخلاقيات الطبية الإسلامية عامة، وأخلاقيات الأوبئة خاصة يجيب على مثل هذه التساؤلات».
كان الدكتور الخطيب أحد المشاركين في الندوة الإلكترونية التفاعلية التي نظمها مؤخرًا مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية «ويش»، بعنوان: «فيروس كورونا: القضايا الطبية والأخلاقيات من منظور إسلامي». وقد أكّد الدكتور الخطيب أن أسلوب تعاملنا اليوم مع وباء فيروس كورونا (كوفيد-19) لم يُعد خيارًا فرديًا فحسب.
وقال: «هناك مبدآن يجب اعتبارهما هنا: الأول تحقيق أعلى المصالح وأعظمها لأكبر عدد من الناس، والثاني: دفع الضرر وعدم الإضرار، وهي قاعدة أخلاقية وفقهية وقانونية طبقًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:»لا ضرر ولا ضرار«؛ إذ إن المسألة لا تقتصر فقط على دفع الضرر عن النفس، بل تتجاوزه إلى عدم التسبب بالضرر للآخرين؛ فإذا كان أي اختيار فردي سيؤثر على مصير الجماعة فهذا يعد إضرارًا، وفيروس كورونا كذلك؛ فهو ينتشر عن طريق التواصل الاجتماعي، فهو لا يتحرك بل نحن الذين ننقله. بعض التقديرات تشير إلى أن كل حالة مؤكدة من الإصابات بـ(كوفيد-19) تقابلها حوالي 5 إلى 10 حالات غير مؤكدة، ما يعني أن الشخص قد يكون ناقلاً للعدوى وهو لا يبدو عليه المرض فتتضاعف الأرقام. وثمة مسألة أخرى مهمة هنا وهي أن اتباع الإرشادات الوقائية التي تحد من انتشار الفيروس سيساعد النظام الصحي في أي بلد على تجنب أزمة التزاحم على الأسرة والمستلزمات العلاجية؛ لأن أي نظام صحي له طاقة استيعابية محدودة وغير مؤهل لاستقبال عدد كبير جدًّا من المرضى في الوقت نفسه، وهذا ما يجعل الحالة في بعض الدول مأساوية، فهو ليس نتيجة فشل النظام الصحي بل لأن الحاجة باتت تفوق طاقته الاستيعابية المعدة للأحوال الطبيعية لا لحالات الأوبئة».
وأضاف: «كل هذه الاعتبارات تبرر القيود التي فرضتها الدول على حركة الأفراد والتنقل والسفر والحجر الصحي والالتزام بمبدأ المسافة الاجتماعية، وحظر التجمعات، وغيرها من الإجراءات التي تم اتخاذها بهدف الحد من انتشار العدوى، والاستجابة لهذه الإجراءات والالتزام بها هي مسؤولية أخلاقية تقع على عاتق كل فرد منا».
من جهة أخرى، تحدّث الدكتور الخطيب أيضًا عن المسؤولية الأخلاقية للدولة تجاه حفظ الصحة العامة وحماية حياة الأفراد، بحسب مبدأ حفظ النفس الذي يندرج ضمن الضرورات الخمس التي جاءت بها مقاصد الشريعة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وقال: «انطلاقًا من هذا المبدأ، يترتب على الدولة مسؤولية أخلاقية تجاه حماية الصحة العامة، ومن هنا يجب على المواطنين الالتزام بالسياسات الصحية التي تفرضها الدولة والتي تتوخى المصلحة العامة. ومن هذا المنطلق، ينص القانون في أكثر من مادة على عقوبات وغرامات تفرض على أي شخص يتسبب - خطأً أو عمدًا - بنشر مرض معدٍ أو وباء، لما ينتج عن ذلك من تعريض حياة الآخرين للخطر».
كما بيّن الدكتور الخطيب أنّ الإيمان بالقدر والمصير لا يجب أن يُغني عن اتباع الإرشادات الوقائية قائلاً: «الله سبحانه وتعالى لم ينزل داءًا إلا وله دواء، والتداوي يتضمن - من باب أولى - الوقاية وهي مرحلة سابقة، وهناك رابط بين الأسباب والمسببات، والأخذ بالأسباب من الواجبات الشرعية».
وأشار الدكتور الخطيب كذلك إلى بعض المعلومات والأفكار المغلوطة في ظل تفشي الوباء. وقال: «هناك فكرة حول أن الأماكن الدينية معصومة من المرض؛ لأنها طاهرة وتُقصد للشفاء فكيف تكون ناقلة للمرض؟ وهذه فكرة تتعارض مع المعلومات العلمية الراسخة، ومع الواقع المشاهد، ومع مبدأ الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن ثم فإن تلك الفكرة الشعبية ينتج عنها الإخلال بالنظام العام والإضرار بالآخرين في زمن الأوبئة».
وأضاف: «الخلاصة هي أن العقائد الدينية يجب ألا تتعارض مع سنن الله في الكون، بل إن اتباع سنن الله هو جزء من إرادة الله التشريعية نفسها، وهذه السنن لا تحابي أحدًا؛ سواء كان مؤمنًا أم كافرًا».
copy short url   نسخ
10/04/2020
737