+ A
A -
محمد الشرقاوي باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات
يخشى مؤرخو الاقتصاد الأوروبيون من شبح أن تتكرَّر مأساة الموت الأسود (Black Death)، التي اجتاحت القارة منتصف القرن الرابع عشر، وأدت إلى وفاة نسبة الثلث من مجموع السكان. وتسبَّب هذا الانخفاض في التركيبة السكانية في ندرة العمالة، وبالتالي زيادة الأجور، والطعن في النظام الإقطاعي في أوروبا آنذاك. كما مهَّد الطريق لقيام الثورة الصناعية التي تعرَّضت بريطانيا بفعلها لاحقًا لوباء «الملك كوليرا» (King Cholera) في أعوام 1831-1832 و1848-1849 و1854 و1867. وكان داء السلِّ مسؤولًا أيضًا عن وفاة ثلث الضحايا في بريطانيا بين 1800 و1850. والآن، يعود هذا الكابوس إلى أذهان الأوروبيين أقوى، لأن الأوبئة والجائحات تشمل «معادلات عظيمة»، وقد تؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد ليس على النمو الاقتصادي الأوروبي فحسب، بل وأيضًا على الاقتصاد العالمي.
وفي الولايات المتحدة، قرَّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة القياسي إلى ما بين صفر و0.25 في المائة (بعد أن تراوح بين 1 و1.25 في المائة في السابق) وشراء 700 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن في اجتماع طارئ يوم الأحد 15 مارس. وبعد أقل من يوم واحد، تراجع مؤشر داو جونز بمجموع 2250 نقطة عند افتتاح التعامل في بورصة نيويورك، وكاد مسؤولو السوق تعليق التداول.
أدى انتشار فيروس كورونا، أو كوفيد 19، إلى خمود الحركة وتوقُّف العالم تقريبًا. وأبقى على طائرات الشركات العالمية في الأرض مما يمثِّل تهديدًا وجوديًّا للعديد منها. على سبيل المثال، سيؤدي الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي ترامب مدة 30 يومًا على معظم الرحلات الجوية من أوروبا إلى أميركا، والذي بدأ سريانه في 14 مارس، إلى محو 20 مليار دولار، وهي مجموع المكاسب التي حققتها شركات الطيران التي تنقل الركاب عبر المحيط الأطلسي خلال العام الماضي. وتتَّسع الدراما الحقيقية من تصوير مدن الأشباح في أفلام هوليوود إلى حقيقة دول أشباح حقيقية كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا. كما اختارت دول أخرى فرض الحجر الصحي على سكانها. وفي المحصلة النهائية، أصبحنا نعيش في عصر التمييز الفيروسي الافتراضي والمفروض طوعيًّا بين الذات والآخر في سائر البيئات الاجتماعية التي كانت حميمية، ومنها أماكن العمل والتجمعات العامة وحتى الكنائس والمساجد والمعابد.
لا غرابة أن يدخل عام 2020 كتب التاريخ كعام لم يكشف عن فشل منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل ينطوي أيضًا على حقبة ركود جيوسياسي ولحظة سقوط النظام النيوليبرالي من عل في القرن الجديد. ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة أو أن تُعزى «لا إلى الفضائل الأخلاقية ولا إلى الحاجة إلى الاستثمارات»، بل «تسلط الأزمة أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التي تتسم بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض الأفراد».
بحلول السادس عشر من مارس، عانت أسواق المال العالمية، بما فيها وول ستريت في نيويورك، خسارات قياسية عقب انخفاض مؤشر داو جونز بنسبة 13 في المائة تقريبًا في أسوأ نسبة انتكاسة منذ الانهيار المالي يوم «الاثنين الأسود» عام 1987. وكانت سوق الأسهم الأميركية قد خسرت قبل أربعة أيام كامل المكاسب التي حققتها بمجموع 11.5 تريليون دولار منذ فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. والمفارقة أن الرئيس ترامب الذي كان منشرحًا في بدايات الأزمة، عندما أبلغ مواطنيه الأميركيين بأن «فيروس كورونا سيزول، لا تقلقوا، فقط حافظوا على هدوئكم»، هو نفسه الذي أصبح يقرُّ أنهم في مواجهة «عدو غير مرئي»، وأن هذا الفيروس يمكن أن يدفع الولايات المتحدة إلى حالة الركود، مضيفًا أنها «محنة سيئة، سيئة للغاية». يبدو أن ترامب يستحضر في ذهنه عواقب الكارثة الاقتصادية التي وقعت عام 1929، وهو يعاين أزمة فيروس كورونا. ويقول بعض المحللين إنه بمثابة يوم «الاثنين الأسود» يحدث من جديد، ويتوقعون «حجمًا هائلًا في الضرر بالاقتصاد الأميركي، واحتمال فقدان ملايين الوظائف في شهر واحد، وانكماش تاريخي ومفاجئ في النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فضلًا عن وتيرة تقلُّبات حادة في السوق المالية لم تشهدها منذ الكساد الكبير».
كتب روبرت شيلر (Robert Shiller)، أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل والحائز على جائزة نوبل عام 2013، عن السرديات التي تؤثر على الاقتصاد. فهو يؤكد أن الوضع الراهن بفعل فيروس كورونا «غير عادي للغاية. ولم يتوقع المواطنون حدوث أي أمر من هذا القبيل قبل بضعة أشهر. لم يدر في خلد أي كان أن في هذا العصر الحديث يمكن أن نكون عرضة بالفعل لوباء خطير، وأن الحكومة ستواجه تحديات صعبة في مسعاها لاحتوائه». وتثير هذه التحولات السلبية التي تنتجها فيروسات
كورونا أسئلة ملحة جديدة حول السياسة الاقتصادية التي تتبعها حكومة ترامب، والتي استرشدت بنظرية اقتصاديات الانتشار العمودي (Trickle-down economics) أو الاقتصاديات الريغانية (Reaganomics)، والتي تمَّ الاحتفاء بها كمنقذ للأنظمة الاقتصادية الغربية من ركود بدايات الثمانينات خلال رئاسة ريغان في البيت الأبيض. فمن خلال اعتماد بعض الامتيازات، مثل: التخفيضات الضريبية على التزامات الشركات والأشخاص ذوي الدخل المرتفع ومكاسب الرأسمال المُستَثمر والأرباح على المدخرات، لوَّحت هذه السياسة بأن فوائد تلك الامتيازات بالنسبة للأثرياء ستتدفق نزولًا إلى بقية الفئات الوسطى والفقيرة في المجتمع.
ويكمن جوهر هذا الادِّعاء بإمكانية حركة عمودية من أعلى إلى أسفل في نمو الاقتصاد في الضبابية بين براغماتية العلم ومغالطة الأيديولوجية الرأسمالية. فخلال عامه الأول في البيت الأبيض، وقَّع الرئيس ترامب على قانون تخفيضات الضرائب والوظائف الذي قلَّص معدل الضريبة على الشركات من 35 في المائة إلى 21 في المائة اعتبارًا من عام 2018. وانخفض معدل الضريبة الفردية الأعلى بالنسبة الشريحة الاجتماعية الثرية إلى 37 في المائة. وقضت خطة ترامب الضريبية أيضًا بتخفيض معدلات الضريبة على الدخل الفردي، وضاعفت الخصم الاعتيادي، وألغت الإعفاءات الشخصية. وفي ضوء القرار بأن التخفيضات الضريبية بالنسبة للشركات ستظل دائمة، تنتهي التغييرات الضريبية بالنسبة لدخل الأفراد بنهاية عام 2025. وفي الأسبوع الأول من مارس/‏آذار 2020، تمَّ استدعاء مديري البنوك الكبرى في وول ستريت إلى البيت الأبيض لمناقشة التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا. ونقلت التقارير أن حكومة ترامب تفكِّر في إقرار مزيد من التخفيضات الضريبية لصالح الشركات، مثل شركات الطيران والشركات السياحية، وتخفيض مؤقت للضريبة على الرواتب. ويفكِّر البيت الأبيض في طلب موافقة الكونغرس على حزمة مساعدات تحفيزية بقيمة 850 مليار دولار لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، و50 مليار دولار أخرى للتحفيز المباشر لإعادة إنعاش شركات الطيران. وتشمل خطة البيت الأبيض أيضًا 100 مليار دولار أخرى لتمويل البرامج التي تهدف إلى التعويض عن الإجازات المرضية، والمساعدات الغذائية، ومساعدات أخرى للعمال الأميركيين. ومن المحتمل أن يصل إجمالي التخصيصات المالية المطلوبة للحد من تبعات فيروس كورونا إلى تريليون دولار.
قرَّرت بعض الدول الأوروبية تقديم حزم مساعدات حكومية سخية للمساعدة في تحفيز اقتصادها المحلي. فتبنَّت بريطانيا خطة تحفيز اقتصادي بقيمة 39 مليار دولار بعد ساعات فقط من قرار بنك إنجلترا خفض أسعار الفائدة. وبدأت إيطاليا إجراءات تحويل 28 مليار دولار لضمان مساعدة الشركات والعمال خلال الأزمة. في آسيا، خصَّصت قطر حزمة بقيمة 23.35 مليار دولار لحماية اقتصادها، فيما خصصت الصين 15.9 مليار دولار لمكافحة الوباء. هذه بعض أفضل العلاجات المالية الممكنة لتداعيات وباء كورونا الذي لا يمكن وقف زحفه في العالم. ولكن، لا يمكن أن يكون لها أكثر من تأثير حبة أسبرين قصيرة الأجل في مفعولها لصداع اقتصادي طويل الأمد. وتساورني الشكوك في أن هذه الإجراءات التي تأمل الحكومات أن ينتشر مفعولها عموديًّا (من أعلى إلى أسفل) ستحلُّ المشكلة. لن يتطابق المنحى العمودي، أو المنشِّطات المماثلة للشركات الخاصة الكبيرة، مع واقع المنحى الأفقي السلبي الشاسع للركود الاقتصادي بفعل تفشي فيروس كورونا. لقد دمَّر تفشِّي الفيروس الجديد الشركات العامة والخاصة تقريبًا بأكملها، ويؤثر على عنصريْن أساسييْن في حركية الاقتصاد: العرض والطلب. ويمكن القول مجازًا إن المحرِّك الرئيسي للاقتصاد العالمي فَقَد قوته وتوقف فجأة، وأصبح خاملًا في منتصف مارس مع تداعيات مفتوحة الأجل تنذر بمزيد من الحذر والعزلة. وعلاوة على ذلك، من المرجح أن تأثير فيروس كورونا سيعزز ويعمق التوجُّه نحو سياسات الأبواب والحدود المغلقة، وتعاظم الشعور العام بعدم الثقة، والتمييز، وقلب مسار العولمة. كما سيزيد في حالة عدم اليقين بعد تراجع دور منظمة التجارة العالمية، باعتبارها إحدى أهم نقاط التحوُّل ذات الصلة نحو إلغاء العولمة، وكذلك صعود القومية، والشعبوية، والسياسات الحمائية، والتوجُّهات المتزايدة ضد الهجرة في السنوات الخمس الأخيرة.
أدَّى تفشي كورونا إلى تعطيل جميع محرِّكات الاقتصاد بما فيه شركات التصنيع ومراكز التسوق وشركات الطيران والفنادق ومتنزهات ديزني. فأصبحت معظم المدن في عزلة، حيث يقبع الأفراد في منازلهم، ولا يخرجون إلى المطاعم، ولا يتجهون إلى مراكز التسوق، ولا يسافرون، ولا يشترون سيارات جديدة. وتظل القاعدة الذهبية أن أي نظام اقتصادي يكره الركود والعزلة. على سبيل المثال، تتأتى نسبة سبعين بالمائة من الاقتصاد الأميركي من الإنفاق الاستهلاكي، وقد توقَّف حاليًّا في الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق. ومن غير المرجح أن تتمكن معظم الاقتصادات من تجنب موجة ركود عارمة على المدى القصير. من المرتقب أن يُفْلِس عدد كبير من الشركات. وستفقد الطبقة الوسطى مرة أخرى بعض قدرتها المالية. ولن يمكن معرفة الآثار الضخمة للفيروس إلا عندما يتمكَّن الأفراد من العودة إلى العمل والخروج إلى الأسواق وإنفاق المال بحلول يوليو أو أغسطس المقبلين. ويضع نموذج بلومبيرج إيكونوميكس (Bloomberg Economics) احتمالات الركود خلال العام المقبل عند نسبة 52 في المائة، وهي أعلى مستوى منذ عام 2009. ويقول جون نورمان (John Normand)، من شركة إدارة الأموال الضخمة جيه بي مورجان (JPMorgan): إن مؤشرات قيمة الأصول في الأسواق المالية تُنْذِر بحدوث ركود اقتصادي بنسبة 80 في المائة.
يبقى السؤال معلَّقًا حول مقدار الوقت الذي سيحتاجه العالم لاستعادة ثقة المستهلكين والشركات. هذه حقبة يغلب عليها الشك والغموض بامتياز. ويتوقَّع العديد من خبراء المالية أنه لن يمكن التغلب على تداعيات فيروس كورونا وتغيير مسار الاقتصاد في اتجاه النمو مجددًا إلا بحلول عام 2031. فقد أعلن محللو حركة الاقتصاد، في مؤسسة غولدمان ساكس (Goldman Sachs)، أن تداعيات الفيروس الجديد تدحض فرضية أن الاقتصاد الأميركي خالٍ من عناصر الركود كما كان شائعًا بحلول عام 2020. ويقول آلان بليندر (Alan Blinder)، نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق والأستاذ في جامعة برينستون الأميركية حاليًّا: «لن أتفاجأ إذا نظرنا إلى البيانات مرة أخرى، وهي تنذر بأن الركود بدأ فعليًّا في مارس. لن أتفاجأ من هذه الحقيقة على الإطلاق». أما روبرت رايتش (Robert Reich)، أستاذ السياسات العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي ووزير العمل السابق في حكومة كلينتون، فيعتقد أن إجراءات الرئيس ترامب ستكون «غير مجدية». ويجادل بالقول إنها «ستكون بطيئة للغاية في تحفيز الاقتصاد، ولن تصل إلى الأسر والمستهلكين الذين ينبغي أن يكونوا هم المستفيدون الحقيقيون من أي حزمة مساعدات مالية، بل ستكافئ الأغنياء الذين لا ينفقون الكثير من دولاراتهم الإضافية، دون وضع المال في أيدي الفقراء والطبقة الوسطى الذين هم من ينفقون فعلًا».
لمواجهة الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة كمثال، تحتاج الحكومة الفيدرالية إلى رؤية براغماتية لتجنب الخسائر الاقتصادية بين الفئات الفقيرة والوسطى في السلم الاجتماعي والاقتصادي. ويدعو الأستاذ رايتش أعضاء الكونغرس الأميركي لسنِّ قانون يسمح بتخصيص ميزانية طارئة بمبلغ 400 مليار دولار على الفور. ويوصي أيضًا بإنفاق الأموال في المجالات الرئيسية:
أ- اختبار وعلاج فيروس كورونا.
ب- دفع الأجر عن الإجازة المرضية أو الإجازة العائلية هذا العام وتكون قابلة للتجديد للعام القادم إذا لزم الأمر.
ج- التأمين الطبي الموسع والتأمين ضد البطالة.
د- تسديد مبلغ بقيمة 1000 دولار لكل شخص بالغ و500 دولار لكل طفل مرة واحدة قابل للتجديد للعام المقبل إذا لزم الأمر.
وجادل خبراء اقتصاد آخرون بأن فيروس كورونا قد يكون «الأمر الأكثر إيجابية» الذي حدث بالنسبة للاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة. ويعتقد بيتر زيهان (Peter Zeihan)، مؤلِّف الكتاب الجديد «أمم غير متحدة: التدافع من أجل السلطة في عالم غير خاضع للحكم» (Disunited Nations: The Scramble for Power in an Ungoverned World)، «أن الصين تمثِّل ورشة التصنيع العمل العالمية، وأنها من حيث القيمة المطلقة، تُعَدُّ أكبر مستفيد من هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد نجحت سياسة اليابانيين والأوروبيين في تحويل الأراضي الصينية إلى مناطق نفوذ إمبراطورية، قبل أن ينهي الأميركيون تلك الاستراتيجية. وقد تطلبت براعة التصنيع في الصين اقتصادات الحجم الكبير لبلاد تحوَّلت جميعها إلى نظام حكومي واحد».
copy short url   نسخ
08/04/2020
952