+ A
A -
د. السيد أحمد برايا
رحلة صعبة وطويلة يقطعها الإنسان لاهثا وراء ذلك الذئب الجائع الذي يبحث عن فريسته ألا وهو الفيروس الذي يتسلل للخلية ويستوطنها ويلقي بكل أسلحته في جسم العائل وتتم عملية انتشار سريع واسعة يسيطر فيها علي مراكز صنع القرار ويصدر توجيهات خاطئة تؤدي إلى تسخير محتويات الخلية لتكوين وحدات منسوخة من هذا الكائن الغازي لتصبح بعدها الخلية وكأنها بقايا مدينة قديمة لم يبق منها قائم إلا أعمدة متآكلة الأطراف بعدها ينفجر جدار الخلية وينتشر في الخارج بالملايين في عملية غزو لمستعمرة خلوية أخرى.
الفيروسات ليست خلايا وإنما جسيمات تتكون من غطاء بروتيني يحيط بمادتها الوراثية وكان من أشمل ما وصفت به أنها نبأ سيئ مغلف بالبروتين. وهي غير مكونة من خلايا ولا تقوم بأنشطتها الحيوية إلا عندما توجد داخل خلايا الكائن الحي فتندفع فيها كل مظاهر الحياة كعود ثقاب يبحث عن برميل بارود. هي تقع بين الحد الفاصل بين الموجودات غير الحية والكائنات الحية. وعند ذلك يعيد برمجة الخلية المضيفة لإنتاج فيروسات جديدة وجعل كل البروتينات تقريبا المستعملة في هذه العملية جزءا طبيعيا من ذاته. تخوض الفيروسات معارك لا ينقشع غبارها ضد جهاز مناعة العائل ولا تسنح لمعظمها سوى فرصة محدودة تتكاثر من خلالها ثم تخرج على عجل قبل أن تتكفل مصفوفة رائعة من آليات العائل الدفاعية بالقضاء عليها بيد أن بعض الفيروسات نجحت في تطوير إستراتيجيتها المراوغة بهدف التغلب علي تلك الآليات المناعية والبقاء علي قيد الحياة بخداع دفاع الخلية عن طريق التحور السريع.
في كتاب «الفيروسات.. مقدمة قصيرة جدا» لدوروثى كروفورد، وهي أستاذة الميكروبيولوجيا الطبية في جامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة، ولها العديد من المؤلفات الشهيرة في مجال الأمراض المعدية، من بينها «العدو الخفي: تاريخ طبيعي للفيروسات»، تقول إن فيروسا جعلني أحاول البحث عن سر هذه الأوبئة التي أصبحت حديث العالم هذه الأيام، حيث تمكن فيروس ربما لا يرى بالعين المجردة من أن يحول العالم إلى مدن خالية، تعصف ريح الخوف في شوارعها.
إن المؤلفة تقول إن الأمر استدعى سنوات من الترقب والخوف حتى يتقبل البشر فكرة وجود كائنات حية دقيقة الحجم هي المسؤولة عن الأمراض التي كانت حتى ذلك الحين تعزى إلى أسباب متنوعة مثل إرادة الآلهة، أو اصطفاف الكواكب على خط واحد، أو الأبخرة الوبائية المتصاعدة من المستنقعات والمواد العضوية المتحللة. وبالطبع، لم يتكون هذا الإدراك الجديد بين عشية وضحاها، لكن مع التعرف على المزيد من أنواع البكتيريا المختلفة، ترسخت «النظرية الجرثومية»، ومع بدايات القرن العشرين وصار مقبولًا على نطاق واسع حتى في الدوائر غير العلمية أن الميكروبات بإمكانها أن تسبب الأمراض.
يستعرض كتاب «الفيروسات» التاريخ العلمي للفيروسات، وعلاقتها بالانسان، والمعركة التي يبدو أن لا نهاية لها بين الإنسان وهذه الكائنات المتناهية الصغر، وتبحث المؤلفة في مسألة كيف تطورت معرفتنا بالفيروسات عبر العصور، وكيف زادت الثورة العلمية الحديثة من قدرتنا على عزل فيروسات جديدة وتشخيص حالات العدوى الفيروسية وعلاجها.
إن الميكروبات البدائية تطورت على كوكب الأرض منذ ما يقرب من ثلاثة مليارات عام، غير أن الإنسان لم يتمكن من عزلها إلا في أواخر القرن التاسع عشر.
كانت التطورات التقنية التي تحققت في صناعة الميكروسكوبات على يد صانع العدسات الهولندى أنتوني فان ليوفنهويك المولود عام 1723 من الأهمية بمكان لهذه الوثبة. كان هو أول من شاهد الميكروبات، غير أن الأمر مع ذلك احتاج إلى الانتظار حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما أجرى كل من لوى باستور المولود عام 1822 في باريس وروبرت كوخ المولود عام 1843 في برلين أبحاثهما، التي شكلت فتوحات علمية كبرى وأكدت أن «الجراثيم» هي سبب الأمراض المعدية، ما أكسبهما لقب الأبوين المؤسسين لعلم الأحياء الدقيقة، وكان باستور صاحب إسهام رئيسي في محو الاعتقاد الذي كان سائدًا في أذهان العامة وهو حدوث تولد تلقائي، بمعنى تولُّد حياة من مادة غير عضوية. في ذلك الوقت، كان نمو الفطريات فوق أسطح الطعام والشراب المختزن يمثل مشكلة ذات أهمية خاصة.. عام 1876 عزل كوخ أول فصيل بكتيري، الجمرة العضوية، وسرعان ما ابتكر وسائل لزراعة الميكروبات في المختبر.
copy short url   نسخ
27/03/2020
253