+ A
A -
فما لبث أن خرج لنا عالم اقتصادي انتشل الاقتصاد الرأسمالي من محنته وهو اللورد الإنجليزي جون مينارد كينز، الذي أوصى بزيادة الإنفاق الحكومي والتركيز على السياسات المالية لإنقاذ الاقتصاد. و«السياسات الكينزية» كانت على العكس تماماً من وجهة نظر المدرسة الكلاسيكية والتي لم تعترف بإمكانية حدوث الكساد. وبالفعل نجحت الوصفة الكينزية في انتشال الاقتصاد العالمي من الكساد العظيم الذي استمر قرابة 10 سنوات حتى عام 1938. ثم ما لبث أن تأتي أزمات ركود تضرب الاقتصاد الرأسمالي من حين إلى آخر، وآخرها كانت الأزمة الاقتصادية العالمية في عامَي 2007 و2008 بسبب الإفراط في قروض الرهن العقاري والتي تسببت في ارتفاع معدل البطالة حتى تجاوزت 9% في عام 2008. وفى هذه الأزمة انهارت الأسواق المالية وأفلست العديد من الشركات والبنوك وازدادت حدة الكساد، ثم ما لبثت أن تدخلت الحكومة الأميركية عن طريق السياسات المالية لضخ ما يقارب 700 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد من أزمته.
هل أحرق "كورونا" مراكب ترامب؟
مع وصوله إلى سُدة حكم الولايات المتحدة الأميركية في عام 2016، أخذ ترامب على عاتقه مهمة تقليص النفوذ الاقتصادي الصيني، خاصة في العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة الأميركية وبدأ بفرض رسوم على الواردات من الحديد والألمونيوم حتى يستطيع أن يخضع الحكومة الصينية ويرغمها على مفاوضات تجارية من شأنها تخفيض العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين، حيث بلغ العجز في الميزان التجاري قرابة 350 مليار دولار لصالح الصين. مما دعا البنك الفيدرالي الأميركي إلى خفض سعر الفائدة خشية دخول الاقتصاد في حالة من حالات الكساد.
ومع انتشار فيروس كورونا في أغلب دول العالم، كانت الولايات المتحدة الأميركية في أزهى قوتها الاقتصادية فقد انخفض معدل البطالة إلى 3.5% وهو معدل لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي. هذا المعدل يعني أن الاقتصاد بلغ حالة التوظيف الكامل، أي أن الاقتصاد يستغل موارده أقصى استغلال ممكن. أما الآن فتشهد الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا انتشار وباء كورونا الذي سبب حالة من الهلع لم يسبق لها مثيل من قبل. وبدا كورونا وكأنه وحش كاسر يلتهم ثمار النمو الاقتصادي في العالم أجمع.
فهل أصبحنا على أعتاب مرحلة كساد عظيم أم انهيار للنظام الرأسمالي برمَّته؟! وهل ستخسر أميركا الانتعاش الاقتصادي الذي حققته مؤخراً؟!
يرى أغلب الاقتصاديين أن الاقتصاد العالمي سيدخل في كساد إجباري بعد إلزام المواطنين بعديد من الدول بالمكوث في منازلهم، كإيطاليا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وإيران. مما خفض حجم الطلب على المستوى الكلي في كل دولة من هذه الدول وغيرها. الولايات المتحدة الأميركية قد خسرت 3.5 مليون وظيفة على أقل تقدير خلال الأيام الفائتة، مع إعلان كثير من شركات الطيران والفنادق والمطاعم تسريح العديد من عمالها، بعض عمليات التسريح كانت اختيارية والبعض الآخر إجبارية.
حيث إن السياسات الاجتماعية والصحية التي تتخذها الدول في حربها ضد كورونا لها آثار واضحة على ربحية الشركات، سواء لانخفاض الطلب على منتجاتها أو بتقليل العرض. على سبيل المثال، أوقفت الولايات المتحدة الأميركية الطيران من وإلى أوروبا، فضلاً عن انخفاض الطلب على السفر المحلي بشكل كبير، وكان من جراء ذلك أن هوت أسعار أسهم أغلب الشركات. شركة دلتا الأميركية للطيران التي بلغ سعر سهمها قرابة 57 دولاراً في 20 فبراير الماضي، انخفض ثمنه إلى 20 دولاراً فقط، وشركة هوليداي إن للفنادق خسر سهمها 50% من قيمته خلال نفس الفترة.
كما وقعت إيطاليا، تاسع أكبر منتج في العالم، في قبضة الكساد. وانخفضت الصادرات الصينية وبدأ انهيار البورصات العالمية إلى حد ما يذكرنا بما حدث في كساد 2008.
هل نشهد انهيار النظام الرأسمالي؟
أياً ما كان الأمر، فقد أصبح الاقتصاد الرأسمالي عرضة لكساد اقتصادي واسع هو الأكثر احتمالاً. لكن هل يعني ذلك انهيار النظام الرأسمالي؟
الإجابة الحتمية هي «لا»، خاصة إذا علمنا أن سبب تدهور الإنتاج هذه المرة ليس ناشئاً عن أسباب اقتصادية بل هو بالمقام الأول يعود لأسباب صحية خارجة عن هيكل النشاط الاقتصادي، مدفوعة من فيروس كورونا. ففي حالة اكتشاف مصل للوباء، سيعود الطلب والعرض الكليان إلى سابق عهدهما وسيتعافى الاقتصاد الرأسمالي سريعاً.
وستخفف الإجراءات والسياسات النقدية والمالية التي اتبعت من قِبل الحكومات وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة الأميركية من حدة الكساد. فقد ضخ الرئيس الأميركي قرابة تريليون دولار، ستُعطى كمنح من الحكومة لمن فقدوا وظائفهم. مع إعطاء كل مواطن أميركي بالغ ألف دولار شهرياً، بالإضافة إلى منحة قدرها 50 مليار دولار لشركات الطيران والسفر التي تأثرت بالأزمة. كما خفض البنك الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة إلى الصفر فضلاً عن ضخ 700 مليار دولار في السوق المفتوحة حتى يزيد من حجم الطلب الكلي. ولم تقُم الحكومة حتى هذه اللحظة بامتلاك أي أسهم من الشركات الخاصة كما حدث من قبل في عام 2008.
وفى النهاية، فإن استغراق الاقتصاد الرأسمالي في الكساد مرهون باكتشاف علاج لهذا الوباء، فإذا اكتُشف دواء أو مُصل فسيتعافى البشر والاقتصاد معاً، ولربما ينجح الرئيس ترامب أيضاً في إعادة الحصول على مدة أخرى في البيت الأبيض.
وتواجه الكثير من الدول ذات الاقتصادات الضعيفة أزمة كبيرة في مواجهة الفيروس لعدم تحمل أنظمتها الصحية ذلك، وتخشى في الوقت نفسه انهيار اقتصادها بسبب حالة الركود وحظر التجول وإغلاق المطارات وتعليق رحلات السفر وغيرها من الإجراءات الإجبارية التي تعمل على تآكل الاقتصاد، مما يتسبب بوقوع خسائر بالغة لها، بعكس الدول الأخرى التي تستطيع الصمود لوقت طويل في المعركة مع الوباء القاتل.
ولذلك، تلجأ الكثير من هذه الدول لطلب قروض صندوق النقد الدولي، الذي كان قد أعلن في مطلع مارس عن تخصيص 50 مليار دولار، لمواجهة فيروس كورونا، كمساعدة طارئة لمساندة البلدان في مواجهة آثار تفشي الوباء. فما هي البلدان التي تستطيع الحصول على قروض مكافحة كورونا، وما هي المعايير لذلك؟ وهل يحصل جميع المتقدمين بطلبات الاقتراض على الموافقة من الصندوق؟
عشرات الطلبات
أعلن صندوق النقد الدولي الثلاثاء أن عشرات الدول تقدمت بطلبات قروض من بينها 12 دولة في الشرق الأوسط ووسط آسيا تواصلت طلباً للدعم المالي لمواجهة تأثير كورونا على الاقتصاد. وبحسب بيان رسمي اعتبر الصندوق أن منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ستعاني تراجعاً كبيراً في النمو الاقتصادي هذا العام وذلك بسبب أزمة كورونا. مشيراً إلى أن هناك العديد من الدول ستواجه صعوبات جمة، خصيصاً الدول التي تمزقها الحروب والأزمات، من بينها العراق والسودان واليمن.
ويبدو أن تونس أول الدول التي ستحصل على قرضها من الصندوق، إذ قال وزير المالية التونسي نزار يعيش الثلاثاء 24 مارس إن صندوق النقد الدولي سيصرف 400 مليون دولار لمساعدة بلاده على مواجهة كورونا، مضيفاً أن صرف المبلغ سيكون خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة، دون مزيد من التفاصيل.
كما أعلنت السلطة الفلسطينية الإثنين، أنها طالبت صندوق النقد والبنك الدوليين، بدعمها ومساعدتها على مواجهة تحديات انتشار فيروس كورونا، لافتة إلى أنها لم تتلق رداً حتى الآن. ولم يعلن الصندوق حتى اللحظة عن قائمة بالدول العربية التي تقدمت بطلبات القروض.
وتقول المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، إن الصندوق يعتقد أن التصرف بعجلة لزيادة قدرة النظم الصحية في كل مكان هو أمر مهم للغاية، مضيفة أنها تريد أن ترى «تدابير مصممة للاستجابة لما قد يكون له تأثير أعمق على الشركات والأسر».
وبحسب المنظمة، فإن العمل مستمر من أجل «التعجيل بالموافقة» على طلبات المساعدة، يقول جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق: «سيدرس مجلسنا التنفيذي طلبات للحصول على تمويل طارئ». ومن المرجح أن تشهد المنطقة انخفاضاً كبيراً في النمو الاقتصادي هذا العام وفقاً لتحليلات أزعور، إذ انخفضت أسواق الأسهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط منذ فبراير، بينما انخفضت أسعار النفط إثر انخفاض الطلب العالمي عليها بسبب الفيروس، وارتفاع العرض بسبب حرب أسعار قائمة بين الموردين.
ما معايير الحصول على قرض من النقد الدولي؟
بحسب الموقع الرسمي للصندوق، بوسع أي دولة من الدول الأعضاء بالصندوق (عددها 189 بلداً)، المصابة بأزمات، التقدم بطلب اقتراض، حيث يقدم الصندوق «الدعم المالي الذي يتيح لها التقاط الأنفاس حتى تنتهي من تنفيذ سياسات تصحيحية تعيد إلى الاقتصاد استقراره ونموه». كذلك يقدم الصندوق تمويلاً وقائياً يساعد على منع الأزمات وتأمين البلدان منها. وبحسب الصندوق، تُصمّم الأدوات المختلفة التي يستخدمها الصندوق في الإقراض بحيث تتلاءم مع مختلف أنواع الاحتياجات التي تواجه ميزان المدفوعات والظروف الخاصة التي يمر بها كل بلد عضو. فالبلدان منخفضة الدخل يمكنها الاقتراض بشروط ميسرة من خلال التسهيلات التمويلية المتاحة في ظل «الصندوق الاستئماني للنمو والحد من الفقر» (PRGT)، حيث تبلغ أسعار الفائدة صفراً في الوقت الراهن.
وبالطبع تخضع طلبات الحصول على القروض لدراسة دقيقة من قبل الصندوق وأعضاء المجلس التنفيذي (يتكون من 24 عضواً على رأسها الولايات المتحدة)، والموافقة تلتزم بعض المتطلبات، كسجل الدولة المتقدمة للقرض في الالتزام بالسداد في وقته، والتزامها بالسياسات الاقتصادية التصحيحية التي يفرضها عليها الصندوق، حيث إن الدول التي تتعثر في سداد ديونها يتوجب عليها إعادة جدولة ديونها ضمن شروط قاسية يفرضها الصندوق، كتحرير الأسعار، وخصخصة الموارد، وتحرير التجارة الخارجية.
وتلجأ كثير من الدول لصندوق النقد الدولي، لأنه يهدف إلى ضمان استقرار الأنظمة المالية بما فيها سعر صرف العملات، ومساعدة الدول الأعضاء على وضع برامج لسياساتها الاقتصادية عند مواجهتها للمشاكل، بعكس البنك الدولي الذي يهدف إلى تقديم المساعدات المالية والفنية للدول الفقيرة لإجراء الإصلاحات وتنفيذ مشاريع محددة، مثل بناء المدارس والمراكز الصحية وتوفير المياه والكهرباء.
وقروض صندوق النقد الدولي قصيرة الأجل نسبياً في حين أن المساعدات التي يقدمها البنك الدولي طويلة الأجل. أما بالنسبة للتمويل، فيقوم الصندوق بتأمينه من مساهمات الدول الأعضاء في شكل اشتراكات للعضوية، وتعكس حصة كل دولة مركزها النسبي في الاقتصاد العالمي، فيما يؤمن البنك الدولي القروض للدول المحتاجة من مساهمات الدول الأعضاء ومن خلال إصدار السندات.
هل تُمنح جميع الدول الموافقة على طلباتها؟
يتهم صندوق النقد الدولي بالكيل بمكيالين في تقديم القروض للأعضاء، وفرض شروط قاسية على بعض الدول فيما يتعلق بالسداد وفرض إجراءات تقشفية قاسية، كمصر والأردن والمغرب على سبيل المثال.
وتحكم معاملات صندوق النقد سياسات داعميه الأساسيين كالولايات المتحدة الأميركية، إذ تواجه الدول التي لديها مشاكل مع واشنطن في الحصول على قرض من الصندوق، كفنزويلا أو إيران على سبيل المثال، وكلتاهما طلبتا قروضاً لمواجهة كورونا، لكن الأولى تم رفض طلبها، والثانية ما زال قيد الدراسة.
إذ طلبت فنزويلا في 17 مارس من الصندوق، مساعدةً بقرض قيمته 5 مليارات دولار لمواجهة الفيروس، الذي أصاب حتى الآن 84 شخصاً، من دون تسجيل أي وفاة. رفض الصندوق الطلب في اليوم التالي، مُعلّلاً قراره بالشكوك المحيطة بشرعية الرئيس مادورو في نظر المجتمع الدولي، وردّ بأنه «ليس في موقع يتيح له دراسة هذا الطلب». مع الإشارة إلى أنّ آخر مساعدة قدّمها الصندوق إلى فنزويلا تعود لعام 2001.
أما إيران، فقد طلبت بشكل عاجل مساعدة الصندوق لأول مرة منذ نحو 60 عاماً، لمواجهة الوباء المتفشي لديها. واعتمدت إيران في طلبها هذا، وفق ما عبّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عبر تويتر، على تعهّد مديرة الصندوق، كريستالينا جورجييفا، التي أكّدت أنّ «الدول المتأثرة ستحظى بالدعم عبر أداة التمويل السريع».
ولم يصدر عن الصندوق أي جواب على الطلب الإيراني بعد، ولكن «الاتصالات لا تزال مستمرة»، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا). وفترة الانتظار هذه لم تمنع واشنطن من فرض حزمة عقوبات جديدة، شملت -من بين ما شملته- خمس شركات إيرانية. يأتي ذلك في الوقت الذي ارتفع فيه عدد المصابين في إيران إلى قرابة 20 ألفاً، والمتوفين إلى نحو 1500.
وبحسب خبراء، من المستبعد منح صندوق النقد، القرض لطهران بسبب قواعد صندوق النقد، وبسبب استخدام واشنطن لنفوذها في الصندوق لرفض الطلب الإيراني. ومما لا شك فيه أنَّ كورونا ستُقوِّض الاقتصاد الإيراني وتؤدي إلى انكماشٍ كبيرٍ في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتتوقع بعض التقديرات المبكرة حدوث انكماش يصل إلى 3 %.ترددت وتتردد مزاعم انهيار الرأسمالية في العقود الأخيرة في خضم الأزمات المالية العالمية المتكررة، لكن ما يغفله كثيرون هو أن النظام الرأسمالي يجدد من آليات عمله وميكانيزماته في أعقاب كل أزمة اقتصادية يمر بها، فالأزمة التي عصفت بالنظام الرأسمالي عام 1929 كانت من الأزمات التي لم يشهدها النظام من قبل، فلأول مرة في تاريخ النظام الرأسمالي يرتفع معدل البطالة إلى قرابة 25 % من السكان في الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن هجرة مواطنين أميركان إلى الاتحاد السوفياتي السابق، نظراً لصعوبة الحصول على طعام! كما تبخرت مدخرات المواطنين في البنوك والبورصة الأميركية.
copy short url   نسخ
26/03/2020
741