+ A
A -
بعد نيل ثقة البرلمان فجر الخميس أدى رئيس الحكومة التونسي الجديد إلياس الفخفاخ وأعضاء حكومته اليمين، وسيكون عليهم الآن معالجة ملفات ثقيلة في المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
وبعد 14 ساعة من النقاش منح مجلس نواب الشعب التونسي في أول ساعات الخميس الثقة لحكومة الفخفاخ بأغلبية 129 صوتا (من 207 حاضرين) مقابل رفض 77 وامتناع نائب واحد.
ثم أدى رئيس الحكومة و32 وزيرا بينهم أربع وزيرات وكاتبتا دولة اليمين أمام رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال موكب رسمي في القصر الرئاسي بقرطاج.
وفي مستهل جلسة التصويت على الثقة الأربعاء عدد الفخفاخ وهو وزير مالية سابق، أولويات حكومته وهي التصدي للجريمة والارهاب ومكافحة ارتفاع الاسعار والفقر والفساد وانعاش الاقتصاد واحداث فرص عمل. كما أكد على ارساء مناخ سياسي سليم وتعزيز دور الدولة ومتابعة تركيز الهيئات الدستورية. وتضم حكومة الفخفاخ 15 عضوا منتمين لأحزاب سياسية يسارية وليبرالية واسلامية و17 مستقلا بينهم أصحاب حقائب السيادة (الدفاع والداخلية والعدل والمالية).
وحصل حزب النهضة الإسلامي الحزب الأول في البرلمان (54 نائبا) على ست حقائب، لكنه لم يمنح الوزارات التي كان يريدها.
كما تشارك في الحكومة احزاب منها التيار الديمقراطي (وسط يسار-22 مقعدا-ثلاث وزارات) وحركة الشعب (يسار قومي عربي-15 مقعدا-وزارتان) وتحيا تونس (ليبرالي-14 مقعدا-وزارتان).
في المقابل لم يشارك حزب قلب تونس (38 مقعدا-ليبرالي) في الحكومة لعدم دعوته للمشاركة فيها وهو حالياً قوة المعارضة البرلمانية الرئيسية.
وفي هذه الحكومة التي لا تضم إلا ست نساء، أسندت وزارتا العدل والداخلية اللتين كانتا موضع تنازع كبير، على التوالي إلى القاضية ثريا الجريبي (مستقلة) ولكادر سابق في الداخلية هشام مشيشي (مستقل) كان عين مؤخرا مستشارا قانونيا في رئاسة الجمهورية.
وعادت حقيبة الدفاع لعماد الحزقي (مستقل) وهو الرئيس السابق للهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة، اما الخارجية فقد تولاها نور الدين الري (مستقل) وهو سفير سابق لتونس في سلطنة عمان.
والوزير الوحيد الباقي من حكومة الشاهد هو أحمد عظوم وزير الشؤون الدينية. ولم يتم التجديد لوزير السياحة رينيه طرابلسي اول وزير من يهود تونس منذ الاستقلال (1956) وسط أجواء من رفض قوي لكل من يمكن ان تكون له صلة باسرائيل.
عمل صعب ومعقد
في يناير فشلت حكومة سابقة شكلها حزب النهضة في الحصول على ثقة البرلمان.
وتدير تونس منذ أكثر من أربعة أشهر حكومة تصريف أعمال، ما غذى بطء الحركة العامة والاقتصاد في البلاد.
وسيكون على الحكومة الجديدة استئناف الحوار مع المانحين وأولهم صندوق النقد الدولي الذي ينتهي برنامجه الذي انطلق في 2016 وينتهي بعد أسابيع.
وتوقع المحلل السياسي صلاح الدين الجوشي أن يكون عمل الحكومة الجديدة «صعبا جدا ومعقدا لأن حكومة الفخفاخ ليست متجانسة اللون، وهي مكونة من أعضاء من أيديولوجيات ورؤى مختلفة».
من جهته قال المحلل سليم الكراي «السؤال المطروح الآن هو بشأن هامش المناورة المتاح لهذه الحكومة، ما سيمكن من قياس نجاعتها».
وينتظر التونسيون بعد تسع سنوات من الاطاحة ببن علي، حكومة تنجح في معالجة العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تنخر البلاد منها التضخم والبطالة. وكتبت صحيفة لوتن الناطقة بالفرنسية الاربعاء «للصبر حدود والجميع يترصد هذه الحكومة الجديدة عند المنعطف وسط تململ ينذر بالتفاقم». مثّل قرار الفخفاخ استثناء حزب قلب تونس من المشاورات أول محطات الخلاف والتجاذب بينه وبين حركة النهضة الحائزة على الكتلة البرلمانية الأكبر، والتي طالبته باعتماد «أوسع قاعدة حزبية وبرلمانية في حكومة وحدة وطنية لا تقصي إلا من أقصى نفسه». وبررت الحركة طلبها برفضها المبدئي لإقصاء أي طرف، وخصوصًا أن كتلة حزب قلب تونس تمثّل الكتلة الثانية في البرلمان، وكذلك بحاجة المشهد السياسي والبرلماني القادم إلى أوسع توافق ممكن لضمان تمرير القوانين الأساسية وتفعيل المؤسسات السيادية؛ وعلى رأسها المحكمة الدستورية، التي تتطلب موافقة ثلثي النواب؛ وهو نصاب يصعب تحقيقه في حال بقاء حزب قلب تونس في المعارضة. وقد أكدت الحركة أن على الحكومة البحث عن شرعيتها لدى البرلمان الذي سيصوت على منحها الثقة، وليس لدى الرئيس.
وعبرت الحركة عن استعدادها لجميع الخيارات، بما فيها الذهاب إلى انتخابات جديدة، في حال إصرار الفخفاخ على موقفه. وقبل انتهاء الآجال الدستورية بأيام قليلة، وفي مسعى لجسر هوة الخلاف بينه وبين حركة النهضة، اجتمع الفخفاخ بوفد من حزب قلب تونس، غير أن الاجتماع لم يسفر عن توسيع الائتلاف الحكومي بضم ممثلين عن الحزب. لا يبدو أن حسابات تشكيل الائتلاف الحكومي كانت الدافع الوحيد وراء حرص حركة النهضة على ضم حزب قلب تونس إليه، بل تشابكت معها حسابات أخرى، بينها الحفاظ على التوازنات القائمة داخل مجلس النواب. وهي التوازنات التي ضمنت لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي رئاسة البرلمان، بعد تصويت كتلة قلب تونس لصالحه، إضافة إلى توظيف مطلب الانفتاح على قلب تونس ورقة ضغط لتحقيق أكبر حضور ممكن في الفريق الحكومي، ولاستخدامه «فيتو» للاعتراض على تسمية شخصيات في مواقع ترى الحركة أن تعيينها فيها غير مطمئن لها. وهو ما تحقق للنهضة برفع عدد وزرائها في الفريق الحكومي وبتراجع الفخفاخ عن تسمية وزراء آخرين أو نقلهم إلى مواقع أخرى.
الفريق الحكومي
يتكون الفريق الحكومي الذي أعلن عنه الفخفاخ من 30 وزيرًا وكاتبي دولة اثنين؛ نصفهم من المستقلين ونصفهم من ممثلي الأحزاب المشاركة.
وتوزعت الحقائب الوزارية المسندة إلى الأحزاب والكتل البرلمانية بين حركة النهضة (7 حقائب)، والتيار الديمقراطي (3 حقائب)، وحركة الشعب وحركة تحيا تونس وكتلة الإصلاح الوطني (حقيبتان اثنتان لكل منها).
وضمت قائمة الوزراء المتحزبين مجموعة من قيادات الصف الأول، بينها عبد اللطيف المكي ولطفي زيتون من حركة النهضة، ومحمد عبو ومحمد الحامدي من التيار الديمقراطي، وفتحي بلحاج من حركة الشعب، وسليم العزابي من حركة تحيا تونس.
ويبدو من خلال عدد الحقائب الموزعة على الأحزاب أن الفخفاخ سعى لتحقيق توازن نسبي بين حجم الكتل البرلمانية وحضورها في الفريق الحكومي، مع تقليص نصيب حركة النهضة بوزير واحد قياسًا على بقية الكتل.
ففي حين حازت الحركة 7 حقائب بكتلة برلمانية تعد 54 نائبًا، حصل التيار الديمقراطي على نصف حقائبها بـ 22 نائبًا، وحصلت حركة تحيا تونس على حقيبتين اثنتين بـ 14 نائبًا.
وبتشكيل الائتلاف الحكومي الخماسي من حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة تحيا تونس وحركة الشعب وكتلة الإصلاح الوطني، تصبح كتل قلب تونس (38 نائبًا) وائتلاف الكرامة (19 نائبًا) والحزب الدستوري الحر (17 نائبًا)، كتلًا محسوبة على المعارضة.
أما أعضاء الفريق الحكومي غير المحسوبين على أحزاب أو كتل برلمانية، فقد حصلوا على 15 حقيبة وزارية وكاتبي دولة.
وحرص الفخفاخ على ما وصفه بـ «تحييد» كل الوزارات السيادية (الداخلية، والخارجية، والدفاع) وإسنادها إلى شخصيات «مستقلة»؛ نزولًا عند رغبة كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي. كما اضطر إلى التراجع عن تسمية لبنى الجريبي في وزارة تكنولوجيا الاتصال، وتعيينها وزيرة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالمشاريع الكبرى، بعد اعتراض حركة النهضة على وصفها بالمستقلة، باعتبارها قيادية في حزب التكتل الديمقراطي الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة الفخفاخ. وكانت أحزاب الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس، قد اعترضت، بدورها، على منح حركة النهضة حقيبة تكنولوجيا الاتصال وطالبت بـ «تحييدها».
ومثّلت «استقلالية» بعض الشخصيات من عدمها إحدى النقاط المثيرة للخلاف والتجاذب بين الأحزاب المشاركة في الائتلاف، وبينها وبين رئيس الحكومة المكلف، حيث اعتُبر عدد من الشخصيات المكلفة مقرّبًا من التكتل الديمقراطي (حزب الفخفاخ)، الذي فشل في نيل أي مقعد في الانتخابات البرلمانية.
أولويات الحكومة الجديدة
تمثل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلاد، كما أكد الفخفاخ، والتحديات الإقليمية التي يفرضها الوضع في الجوار الليبي أبرز أولويات الحكومة الجديدة؛ وهي الرؤية التي تشاركه فيها أغلبية مكونات الائتلاف.
ويأتي على رأس الأولويات الاقتصادية والاجتماعية «تحسين القدرة الشرائية ومقاومة الاحتكار والتهريب»، و«إنعاش الاقتصاد بإجراءات عاجلة»، و«تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد»، و«تعبئة الموارد الضرورية للدولة لسنة 2020».
أما الأولويات متوسطة المدى، فتتلخص في «صياغة مخطط للاستثمارات الاستراتيجية للمستقبل»، وذلك بإطلاق «مشاريع كبرى»؛ بينها برنامج هيكلي لإصلاح الدولة واستكمال بناء اللامركزية، وإصلاح المنظومات التربوية والصحية والزراعية، وتحقيق نقلة في مجالات الرقمنة والطاقة.
وقد تعهد الفخفاخ بالعمل على استكمال مسار العدالة الانتقالية، واستكمال مؤسسات الدولة؛ بما فيها المحكمة الدستورية، وانتخاب المجالس الجهوية وتعزيز سلطة الأقاليم، ودعم استقلالية القضاء، ومقاومة الإرهاب.
لا يختلف البرنامج الذي طرحه الفخفاخ لعمل حكومته، كثيرًا، عن البرامج التي طرحتها الحكومات السابقة، إلا في بعض التفاصيل. وعلى الرغم من أن البلاد قطعت شوطًا معتبرًا في الانتقال السياسي والمؤسساتي، منذ الثورة، فإن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية لم تشهد خفض نسب البطالة وتقليص عجز الميزان التجاري ووقف تراجع قيمة الدينار، مع أن الحكومات المتعاقبة أكدت أولوية معالجتها.
وبناء عليه، تظل هذه الأولويات المعلنة، خاصة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، رهينة تحويلها إلى إجراءات عملية قابلة للقياس والتقييم.
تحديات منتظرة
نيل الثقة لن يكون نهاية المصاعب التي اعترضت الفخفاخ منذ تكليفه. فإدارة ائتلاف حكومي فسيفسائي، مكون من مستقلين ومن ممثلي خمسة أحزاب وكتل برلمانية متنافرة، والحفاظ على انسجامه، لن تكون أمرًا يسيرًا، علمًا أن نجاح الفخفاخ في جسر الهوة بين أحزاب مختلفة جذريًا؛ على غرار حركة الشعب والتيار الديمقراطي، التي كانت، إلى ما قبل أسابيع، ترفض رفضًا مطلقًا أي شراكة مع حركة النهضة، يُعدّ إنجازًا كبيرًا، يفتح الباب أمام إمكانية خروج التجربة الديمقراطية التونسية الغضة من دوائر الفرز الأيديولوجي الإقصائي إلى مشهد سياسي مفتوح، تنشأ فيه تحالفات الحكم والمعارضة، وفق اعتبارات سياسية وبراغماتية.
أما على مستوى الوعود التي قدمها الفخفاخ في برنامجه الحكومي، فسيكون تعامله مع الملف الاقتصادي والاجتماعي الاختبار الأهم لمدى قدرة فريقه على تحقيق إنجازات تخفف من وطأة الأزمة المعيشية متعددة الأبعاد؛ وهو اختبار لن يكون يسيرًا. ويفرض الفشل الذي وسم سياسات الحكومات السابقة في الملف الاقتصادي والاجتماعي على الفخفاخ وفريقه العمل على مشروع يأخذ في الاعتبار حل الأزمة البنيوية المزمنة التي يعانيها الاقتصاد وتعديل المنوال التنموي برمته؛ بما في ذلك الإقدام على إجراءات غير شعبية؛ كتعديل دعم السلع التموينية ومراجعة برامج التشغيل بالوظائف الحكومية ومكافحة الاقتصاد الموازي الذي يستحوذ على أكثر من نصف قيمة الاقتصاد التونسي. وهي إجراءات قد تدفع إلى توترات اجتماعية، ما لم ترافقها خطط تنموية واستراتيجيات اتصالية مدروسة.
وفي السياق ذاته، تتصاعد التحديات التي تنتظر الفخفاخ وفريقه في ظل وضع إقليمي ضاغط، بسبب الأحداث التي يشهدها الجوار الليبي وتداعياتها الأمنية والاقتصادية المباشرة على تونس، إضافة إلى الملفات التي تنتظر الحسم مع الشركاء الأوروبيين، وعلى رأسها اتفاق التبادل التجاري الحر في المجال الزراعي، المعروف بـ «الأليكا»؛ وهو الاتفاق الذي ظلّ يمثّل موضوع خلاف كبير بين الأطراف المهنية والسياسية، بما فيها الأطراف المشاركة في الائتلاف الحكومي.
copy short url   نسخ
29/02/2020
602