+ A
A -
بقلم : د . سعاد درير كاتبة مغربية
في أكثر من مكان، وعلى امتداد أكثر من زمان، تَتبادر إلى عينيكَ رسوم تَعرض تصويرا فنيا لا يخطئه ذوق الذاكرة من باب التوثيق للحظة التي لا تُؤَجِّل موعدها مع أكثر من رغبة في انفلات..
عن ثقافة الشعوب والإنسان، عن التراث وكذلك عن الفن والعمران، عن هذا وسِواه مما لا يخرج عن الجِسر الممتد من عدسة العين العاكسة للضوء إلى مداخل الحياة هاهي ذي تتحدث الجداريات..
لِنَقُلْ إنه فن الجداريات ذاك الذي يَنبش ذاكرة الإنسان والحياة، فإذا به يرسخ أثر الخطوة الهاربة إلى المقدمة قبل أن يَنْأَى عنها ظلُّ حذاء الإرادة الإنسانية تلك المحفزة على اشتغال المخيِّلة لتجسيد ورسم ما لا يستعصي على التصور و(لِمَ لا) المحاكاة..
فن هو حامل لأكثر من رسالة تفيض بالمعاني، تلك هي المعاني النابعة من قلب الماضي البعيد لتتسلل برؤاها الجمالية إلى الزمن الراهن..
محظوظ مَن يطرق ماردُ الحظ بابَه، محظوظ هو وموعود بأن يَفتح له القَدَرُ النوافذ تلك التي تَصير مشرعة على الفن والحُبّ الحالم ذاك الذي يُمَنِّي الروح بما يُرضيها من سِلال الورد والغنائم..
إنه الفنان بير كروخ Per Krohg سليل العائلة الفنية هو المنحدر من أسرة لا يفوتها أن تتنفس الصعداء على مشارف مدينة الفن، كيف لا وهو ابن الفنان كريستيان كروخ Christian Krohg والفنانة أودا كروخ Oda Krohg..
هو ذا الفنان النرويجي بير كروخ الذي خبر ركوب السلالم، إذ تمرس على عشق سلالم الحياة، واشتهر هو بالنبوغ في رسم الجداريات..
لكن كيف كانت البدايات؟!
بطبيعة الحال كانت بداية بير كروخ على يد والده الأستاذ والفنان كريستيان كروخ، ولا غرابة أن يَرضع هو حليبَ الفن منذ صِباه هو الذي وجد في والده القدوة، بل أكثر من ذلك فإنه وجد فيه العصا الساحرة تلك التي تؤهله لقطف ثمار الحُلم قبل اكتمال مسافة الطريق إلى الحُلم..
غير أنه مما لا يمكن أن ينكره بير كروخ هو تمرنه على يد أستاذه الفرنسي هنري ماتيس Henri Matisse ذاك الذي شكلَ بالنسبة لبير كروخ المعلم الذي لقنه ما رسخه والده في ذهنه من أبجديات فنية..
ومما لا يختلف فيه اثنان أنه الفنان بير كروخ صاحب اللوحة التشكيلية البليغة التصوير تلك التي تؤثث الجدارية التي تَشغل خلفية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة..
من بداية الرسم على صفحات الجرائد تَدَرَّجَ بير كروخ في تسلُّق نخلة الفن إلى أن بلَغَتْ يداه سقفَ المرامي وهو يَعمل أستاذا في الأكاديمية الوطنية للفنون بأوسلو قبل أن يتولى إدارتَها..
إنها رحلة عمر استغرقت 75 سنة كان من الطبيعي أن يحصد فيها صاحبها سنابل نجاحه هو المخلِص لحقل الفن، ولاسيما الجداري منه، لذلك لم يكن كثيرا عليه أن يحظى بوسام الاستحقاق الذهبي قبل أن ينال شرف الحصول على وسام الأمير يوجين..
كل جدارية كانت بمثابة شاهد على العصر، إذ تَحكي كل واحدة عن تاريخ وتَرصد أكثر من سيرورة وتُقدِّم شهادة على ما حدث في زمن ما..
قلة مَن لا يجهل الكثير عن فناني النرويج، لكن لِنَتَّفِقْ على أن هؤلاء هم الذين لا ينقصهم الوعي بأدواتهم الفنية تلك التي يُسَخِّرُونها لخدمة الثقافة النرويجية والإبداع الإنساني بشكل عام مادام حامل الريشة العائمة في مساحاتها اللونية لا يختلف عن حامل القلم المؤمِن بالقضية..
إنها ثقافتهم الحاضرة بقوة في أعمال مَن هُم على شاكلة الكبير إدوارد مونش (وقد وقفنا عنده سابقا مع لوحة «الصرخة»)، بيد أن تألق بير كروخ يكمن في حرصه على الارتقاء بفن الجداريات ذاك الذي مازال يحتفظ له بخلود ريشته في كبريات المؤسسات والمنظمات من أوسلو إلى نيويورك..
ولأن الابن سرّ أبيه، فإن بير كروخ قد ضربَ لزمن الفن موعدا آخر (حتى بعد رحيله) مع ابنه «كي كروخ Guy Krohg» الذي ورّثه هو أصابع الفنان الذي لا يهجره الهوس بسحر الريشة الحالفة أن تُلقي بجسدها في حوض الألوان الباعثة على حياة ثانية..
ظَلَّ لسان الفن ناطقا بسيادة اللوحة الجدارية في جملة من الأعمال التي تكتب تاريخ أُمَمٍ وحضارات، غير أنه اتخذ في زمن بير كروخ بعدا آخَر جعله يَلِجُ بعمق إلى أبعد نقطة في مرآة التصوير العاكسة لخبايا الفن الجداري..
فنٌّ هو من الطبيعي أن يَكون له أهله القائمون بأمره والساهرون على احتواء مساحات تجلياته، فن هو عانق قُبَّة السياسة وتأبط أذرع رجالها وزعمائها وأبطالها..
فنّ هو التقط مشاهد للتوسع العمراني وحصر مظاهر للتمدد الإنساني، فن هو صافح الثقافة وعانق الماضي العريق، ومازال إلى الآن نابضا بعنفوان التاريخ ذاك الذي أقسم ألا يَقول كلمته الأخيرة..
لِنَقُلْ إنها جداريات تستهويها الظلال التبئيرية لِتَقُول بطريقتها الخاصة ما فاتَ الحكاية أن تَقولَه بغير اللغة..
copy short url   نسخ
22/02/2020
1745