+ A
A -
أنور الجمعاوي أستاذ وباحث جامعي تونسي
تضطلع النخب السياسية المعارضة، والحاكمة، والمستقلّة في المجتمعات المدنية، التقدّمية، الديمقراطية، بأدوار طليعيّة في نشر ثقافة التعايش، والتنسيب وتكريس التعدّدية، وتأمين التداول السلمي على السلطة، وتساهم في بناء دولة القانون والمؤسّسات. ويُفترض أن تتحلّى بدرجةٍ عاليةٍ من النزاهة، والصدق، والتواضع، والشفافية، والقدرة على نقد الذّات وقبول الآخر. وعلى النخب السياسية توجيه الوعي الجمعي نحو القبول بقواعد الانتظام الديمقراطي، وبمقتضيات عقد الحرّية والمسؤولية، وتحرير النّاس من سطوة العقل الأحادي والحكم الشمولي، والسلوك الإقصائي على نحو يضمن تحويل الديمقراطية إلى حالة وعي شعبي عام. والملاحظ في تونس أنّ الثورة الشعبية ضدّ الاستبداد أسّست نسبيّا لزمن ديمقراطي جديد، جلّته وفرة الأحزاب، وبلورة دستور توافقي، وتوسيع مجال الحرّيات العامّة والخاصّة، وتنظيم انتخابات رئاسية، وتشريعية، أكثر من مرّة. ولكنّ الظاهر، بعد تسع سنوات من الثورة، أنّ معظم النخب السياسية في تونس لم تستوعب الدّرس الثوري، ولم تتمثّل بالدرجة المطلوبة المتن الديمقراطي، ولم تتجدّد على النحو الكافي لمواكبة مقتضيات الزمن التعدّدي، وظلّت محكومةً بمسلّماتها القديمة، وقياداتها الكلاسيكية، وحساباتها العصبية، ولم تنجح في الامتداد في العمق الشعبي، وفي ترسيخ الثقافة الديمقراطية وتعميمها. بل ما فتئت تعاني من أزمات هيكلية وعُقَد بنيوية في الخطاب والممارسة. لعلّ أهمّها الارتهان إلى الأيديولوجيا المغلقة وشيطنة الآخر، والاحتذاء بالزعيم الملهم، وازدواجية الخطاب، وضمور المراجعة النقدية.
لا يتعامل معظم الفاعلين السياسيين، قبل الثورة وبعدها، مع الأيديولوجيا باعتبارها منظومة فكرية نامية، مفتوحة على الواقع، وقابلة للتطوير والتغيير، بحسب مستجدّات الاجتماع التونسي. بل
يرون الأيديولوجيا الموجّهة لتصوّراتهم والمنظّمة لسلوكهم عقيدة مقدّسة، ومنظومة مغلقة، تتضمّن أجوبة نهائية، وأحكاما مثالية، لا تقبل النقد أو المراجعة أو التنسيب. وبناءً عليه، يدّعي جلّ المتأدلجين امتلاك الحقيقة المطلقة، وينشدّون إلى شعارات قديمة، ومصادرات جاهزة، يعتبرونها عناوين حلولٍ ممكنةٍ لمعضلات الرّاهن التونسي. خذ مثلا على ذلك تشبث القوميين بفكرة الوحدة العربية ونموذج «الدولة الناصرية»، واستحضار شق من الإسلاميين فكرة «دولة الخلافة» ومتعلّقاتها، وترديد اليساريين مقولات رفض الخصخصة.
(يتبع)
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
22/02/2020
661