+ A
A -
لم يعد الزمن مجرد خيط وهمي يربط الأحداث بعضها ببعض، ويؤسس لعلاقات الشخصيات بعضها ببعض، ولكنه أصبح أعظم من ذلك شأناً، إذ أصبح السرديون يرهقون أنفسهم في اللعب بالحيز واللغة والشخصية؛ فأصبحت الأعمال السردية فناً للزمن.
من هنا يبدو عنصر الزمن (الأزمنة) وكأنه مجموعة من المستويات الأفقية وإن تعددت، إلا أنها لا تأخذ الشكل الفضائي الحجمي الموافق للنص، باعتباره بنية متكاملة متداخلة ذات أبعاد مفتوحة على الحراك الداخلي للنص يستعصي الولوج بها إن لم نحاول المغامرة باتجاه الغوص إلى ما هو أعمق من البنية السطحية. وإننا إذا لم ننتقل بتلقي النص إلى مستوياته العميقة، فسنُبقي على محدودية الأزمنة، وحركيتها في المستوى الخطي الإيقاعي (العنصر الموسيقي) وفي مستوى الصورة الشعرية غير الحجمية (اللافضائية). وقد قُدّمت دراسات كثيرة وغنية حول هذين العنصرين الهامين في الشعر العربي، إلا أن التناظرية البنائية التي قدمت تناظرية نقدية اعتمدت على ثنائية اللفظ والمعنى، وتركت الزمن محدوداً في أطر التوافق والتجانس بين تلك الثنائيات.
فيما يتعلق بزمن القصيدة نفسها، فإن لكل نص شعري زمنه وأسطورته الخاصة، أي أن القصيدة تصنع زمنها وتخلقه، وهنا تبدو الأسطورة أكثر جلاء ووضوحاً عندما تتقدم الرؤيا بخطوطها الزمنية التي تحدثنا عنها على الرؤية. والحراك الشعري يزداد تألقاً كلما كان قادراً على صنع أسطورته الخاصة، وخلق إبداع معانٍ جديدة تتحرك ضمن إطار أسطورة الفعل المرتبط بحركيات النص الداخلية والتي تعني محاولة الشاعر الإمساك بحركة الزمان والسيطرة عليها، فالعالم خلق منذ الأزل وبدون أن يتدخل الشاعر، في حالة ما «ماضية»، في زمن أولي، لذلك لا بد أن يتدخل الشاعر للإمساك بحركته خوفاً من خرابه وتدميره، فهو يطمح للعودة إلى ما قبل الخطيئة الأولى، لذلك يحاول في كل نص شعري أن يتجاوز تلك الخطيئة، وأن يمنع وقوع خطيئة أخرى، لذلك يحاول أن يمسك بحركيات الزمن من خلال الزمن، فيصنع أسطورته الخاصة من خلال نصه الذي يتجدد مع كل أسطورة جديدة في نص جديد.
وترجع أهمية عنصر الزمن لعدة أسباب. أولا، لأن الزمن محوري، وعليه تترتب عناصر التشويق والإيقاع والاستمرار، ثم أنه يحدد في نفس الوقت دوافع أخرى محرّكة مثل السببية والتتابع واختيار الأحداث. ثانيا، لأن الزمن يحدد إلى حد بعيد طبيعة العمل السردي وتشكيله، بل إن شكل السرد يرتبط ارتباطا وثيقا بمعالجة عنصر الزمن. ثالثا، ليس للزمن وجود مستقل نستطيع ان نستخرجه من النص، فالزمن يتخلل النص كله، ولا نستطيع أن ندرسه دراسة تجزيئية، فهو الهيكل الذي تشيد فوقه العمل السردي؛ حيث يؤثر في العناصر الأخرى وينعكس عليها، فالزمن حقيقة مجردة لا تظهر إلا من خلال مفعولها على العناصر الأخرى.
والزمن بصورته المجردة غير دال ولا يحمل معنى من معاني الحياة، فبقدر دخوله في بنية بقدر جدواه، فالحدث أو الفعل السردي أو الحكاية المروية هي التي تبعث في هذه الخيوط الممزقة الحياة والدلالة؛ فتصبح عالما قائما بذاته، لكنه من إبداع الأدب، كما يصبح مخلوقاً جديداً من صنع الأدب، فهو الحدث والسرد والحيز والشخصية. ومن هنا تأتي أهميته عنصرا بنائيا، حيث إنه يؤثر في العناصر الأخرى وينعكس عليها، فالزمن حقيقة مجردة سائلة لا تظهر إلا من خلال مفعولها على العناصر الأخرى.
والزمن في العمل السردي على ضروب شتى، سمي بعضها بالأزمنة الخارجية، وبعضها الآخر بالأزمنة الداخلية: من النوع الأول: زمن الكتابة، وزمن القراءة، فمعلوم أن وضع الكاتب وزمنه تنعكس منه على العالم التخييلي، فالزمن الذي تطرحه القصيدة ليس هو الزمن الذي يطرحه موضوعها، فتتداخل أزمنة النص الخاصة، وأزمنة موضوعه، بما يرتكز على أزمنة أخرى، وخصوصاً الاجتماعي منها، مع أزمنة التلقي (المتلقي) الفراغية أيضاً، مكوّنةً وحدة استقبال وتفاعل تعطي الفضاء الشعري أبعاده الكاملة.
ولعل الذي يعنينا هنا هو الزمن الأدبي الذي يسهم في بنية النص الأدبي وهو زمن يصنعه المبدع مخالفاً به الزمن الطبيعي الذي لا يخرج عن تلك الخطية المعهودة، «فهو ضروري في تصميم شخصيات العمل الأدبي وبناء هيكلها، وتشكيل مادتها وأحداثها». كما أنه يتحول إلى زمن العلاقات المتشابكة، «فيتطور في حركته اللولبية في قفزات وخطوط بيانية، هي صدى لتطور عام «ذلك أنه يستطيع من خلال هذا الزمن وبكل سهولة أن يطير إلى المستقبل، أو يعود إلى الطفولة لأنه -الزمن- يهدم الحائط بين الحلم والواقع فيتجاوز كثافة الأرض الحقيقية طبقة طبقة، ويبلغ مناطق نائية يصبح فيها العالم وهماً، وتزول الأشياء والأماكن والأحقاب من وجهه مفسحة المجال أمام مخيلته لإعادة خلقها كما يشاء». إذا كان الزمن في الخطاب الأدبي التقليدي يكتسب منطق التسلسل والتتابع المنطقي، فإن اللامنطق هو الذي يتحكم في بنية الزمن من خلال التداخل، والاسترجاع والاستذكار، حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة لتسهم جميعها في تكسير عمودية السرد.
copy short url   نسخ
18/02/2020
2434