+ A
A -
صلاح الدين الجورشي كاتب تونسي
لم تنته قصة الجامعي قيس سعيد بمجرد وصوله إلى قصر الرئاسة، فهو ليس من أولئك اللاهثين وراء السلطة بحثا عن النفوذ والجاه. للرجل رؤية سياسية تسكنه منذ سنوات، ولا يزال يؤمن بها رغم الانتقادات الشديدة التي يتعرض لها بسبب هذا الحلم. حتى الذين دافعوا عنه خلال حملته الانتخابية راجعوا موقفهم منه، وأصبحوا اليوم يتهمونه بكونه يحمل أفكارا من شأنها «تهديد الدولة الوطنية». من بين هؤلاء على سبيل المثال أستاذه في القانون الدستوري عندما كان طالبا، عياض بن عاشور، الذي سبق أن سانده من قبل لنقض تهمة الكثير من المثقفين الحداثيين ووصمه بكونه سلفيا، انقلب عليه هذه الأيام وهاجمه بقوة عندما وصفه بـ«الرئيس الضد»، فهو من وجهة نظره «ضد الأحزاب وضد النظام الحالي وضد كل شيء». واعتبر برنامجه المتمثل في إرساء الديمقراطية المباشرة «مغالطة للرأي العام ولا يمكن تحقيقه مطلقا».
بعد أن أصبح رئيسا لتونس وحقق نسبة استثنائية في عدد الأصوات التي حصل عليها من الناخبين، وجد هذا الجامعي نفسه حبيسا لقواعد اللعبة الديمقراطية التي وضعتها الأحزاب، ونص عليها في الدستور. وبما أن وظيفته الأساسية كرئيس للبلاد تتمثل في المحافظة على هذا الدستور وعدم الخروج عليه وإلزام الجميع باحترامه حرفيا، فقد أظهر أمانة عالية في الالتزام بحماية منظومة هو مقتنع في أعماقه بكونها مغشوشة في جزء منها، وتتعارض جوهريا مع مرتكزات مشروعه السياسي الذي تأسست عليه شرعيتها الانتخابية.
لم يتخل الرئيس سعيد عن أفكاره السياسية ولم ينس الوعود التي قدمها لجمهوره العريض الذي انتخبه. هو مدرك لكونه في مأزق حقيقي، لا يستطيع أن يتحرر من القيود الدستورية التي تحدد مجال حركته، وتجعله مضطرا للخضوع لإرادة البرلمان. كما أنه غير قادر على القفز فوق الأحزاب التي تعتبر ركيزة أساسية من ركائز النظام السياسي القائم حاليا في تونس. فمن واجبه التعامل مع الأحزاب رغم اقتناعه بأن جزءا من العطب الذي يعاني منه الانتقال الديمقراطي بتونس يكمن في المشهد الحزبي السائد الذي لم ينضج بالقدر الكافي، والذي يتسم بتضارب مصالح بين تنظيمات لم ترتق إلى مستوى أحزاب حقيقية، كما فشلت في مواجهة اللوبيات التي تلعب دورا بارزا في هذه المرحلة الدقيقة التي لم تتمكن خلالها الدولة من استعادة قوتها وهيبتها رغم مرور تسع سنوات على الثورة.
هذه الوضعية لا تثير قلق سعيد فقط، ولكن تثير بالخصوص المنحازين له، والذين أصبحوا يخشون عليه من مناورات الأحزاب وشبكات المصالح. فالجبهة الداعمة للرئيس تبحث حاليا عن وضع استراتيجية تكون ناجعة من أجل دعمه، وتخفيف الضغوط عليه، وتفكر في وسائل واختيارات من شأنها أن تحرر الرمز ومشروعه.
{عن (عربي 21)
copy short url   نسخ
28/01/2020
145