+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
لو أن علوم الطب كانت متقدمة في عهد الخليفة العباسي العظيم أبي جعفر المنصور، لتغيّر وجه العالم وتاريخ العرب. ولو أن العقل السياسي الذي كان وراء تأسيس مدينة البحث العلمي في عهد الخليفة المأمون حفيد المنصور، تمأسس وتسنّى له تطوير أدواته، لتغيّر العربُ وعقلُهم الجمعي. لكنّها إملاءات الحتمية التي تفرضها المرحلة التاريخية التي كانت تجتازها أُمّة العرب. فما كان ينتظر أن يخرج العقل العربي عن سياقه التاريخي فيحدث انفجارا معرفيا في الطب أو العلوم التطبيقية الأخرى. تُرى، ما الحدس الذي كان يهجس به المنصور وهو يبني عاصمته بغداد على شكل دائري فائق الجمال؟! أهو صدّ العدوان وتحصين العاصمة بوجهه، من أي جهة أتى؟! ما الذي يجعل المنصور يوفد السفراء لشراء الأبحاث العلمية الإغريقية والهندية، في مجالات الطب والفلك والجغرافيا؟! ما الذي كان يحدو المنصور ليستقدم فيلقا من علماء الفلك الهنود ليدربوا كوادر عربية تؤسس لاحقا علما عربيا للفلك؟! أهو فقط، حدس السلطان أو الملك المستنير، بأن العلم هو الطريق الوحيد للنهوض وإحداث التغيير! كيف ينحو عقل المنصور في هذا الاتجاه، الذي استوعبه حفيده عبدالله المأمون ليطلق مدينة للبحث العلمي التجريبي، ما يعد تطويرا لخطى الجد العظيم؟!
واتساقا مع المرحلة، كانت جهود المنصور العلمية تصدر باوامر، وكذا المأمون، ما يُعبّر عن طبيعة الإحلام والاستشراف الذي بلغه رأس الحكم، فيما هو يفتقد للوعاء الفكري والاجتماعي الحاضن. أي أن طريقة تفكير الخليفة وفهمه لأهمية العلم النظري والتطبيقي، لم تكن تعبيرا عن حاجة قوى اجتماعية كان يمكن أن تتبنى هذه المشاريع فتحيلها إلى سياسة كان من شأنها أن تقلب الأمور رأسا على عقب في المرحلة العباسية، التي كانت تحمل سمات المجتمع العبودي الاقطاعي. هذا المجتمع الذي لم تنضج فيه القوى الاجتماعية حد استخدام العلم التطبيقي لتعزيز حضورها السياسي وهيمنتها الاقتصادية. ربّما كانت أحلام المنصور وحفيده المأمون سابقة تاريخيا لأوان تحققها اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا، وكذا فرزا طبقيا.
فالعلم منذ تفجره في طاقته الهائلة هو معطى للمرحلة الرأسمالية وإنتاجها وقواها الاجتماعية التي لم تتوافر في أي بقعة في العالم سوى في الغرب. الغرب الرأسمالي الذي فهم مبكرا بعد مخاضات عسيرة وحروب استعرت لتدفن الملايين، إن العلم التطبيقي هو وحده الطريق الذي يقود إلى قياد دولة الامة الناجزة التي أخضعت لها العالم كله. لذلك كله، يعبر مفكرون وصحفيون غربيون كثر عن منتهى الدهشة وهو يقرأون سيرة المنصور والمأمون. يدهشون دهشة تفضي بهم إلى أنصاف العرب، الذين لم يفهموا ذاتهم التي عبرت عنها طرق تفكير المنصور والمأمون. ولعلّ فهما عربيا موضوعيا لطبيعة المرحلة العبودية الإقطاعية، من شأنه أن يجعل الأمة ونخبها أقلَّ انكفاءً على ذاتها، وأقلَ ندبا للحظ وجلدا للذات الجمعية للأمة.
ما كانت لتتوفر للمنصور والمأمون سبل إنجاح هجسهما الثوري في تلك المرحلة التاريخية المبكرة. التبرير العقلي لهذا المعطى مرتبط بواقع الحال العربي الذي لم نغادره مذ العصر العباسي الأول.
يليق بالمنصور والمأمون أن تجري لهما ولمرحلتهما دراسات علمية عميقة لا تغرق في الثناء والدهشة، وتتحرى الأبعاد التي دفعتهما إلى اتخاذ خطوات تبدو منزوعة عن سياقها التاريخي.
من الثابت أن هذين الخليفتين الفارقين كانا يرنوان بعيدا إلى المستقبل، وهو ما لم تسنده قوى اجتماعية ودولة تتبنى مشروعهما الثوري في تطويع العلم لخدمة المجتمع والدولة.
كان المنصور وحفيده ملكين حالمين، وربما كانت احلامهما أكبر من أن تتسع لها أو تستوعبها المرحلة، لذا بقيا فارقين في سطوعهما الاستثنائي الذي لا تدركه إلا القلة النادرة من عرب اليوم.
copy short url   نسخ
27/01/2020
214