+ A
A -
عواصم- عماد فواز- زينب بومديان- خديجة بركاس- خديجة الورضي- نادية وردي
للعام التاسع على التوالي، لم يهدأ الشارع العربي يوماً منذ انطلاق شرارة الغضب في تونس أواخر العام 2010، عندما أطلقها محمد البوعزيزي البائع المتجول الذي احتج على الظلم والفقر بأن أضرم النيران في جسده، ليخرج الشعب التونسي إلى الشوارع غضباً، وتحت وقع الصدمة هرب الرئيس زين العابدين بن علي، وسريعاً ما تلقفت الشعوب العربية التي لم تكن أفضل حالاً من البوعزيزي شرارة الغضب، فخرج المصريون ضد مبارك، والليبيون ضد القذافي، واليمنيون ضد علي عبد الله صالح، لتكبر دائرة الاحتجاجات وتتسع رقعة الغضب، وتستمر منذ ذلك الحين حتى الآن، غضباً مستمراً وأملاً دائماً في إصلاح ما دمره الفساد لعقود طويلة، وخلع الأنظمة التي بددت موارد وخيرات الشعوب.. وبين انتصارات وانكسارات، مازال التاريخ يسطر حتى الآن فصول «الربيع العربي» وملامح أحلام الشعوب، بيد باحثين وخبراء عرب وأوروبيين تحت عنوان عريض «أمل الشعوب وكابوس الأنظمة الديكتاتورية».
وقال عبد الصمد حميدو، أستاذ السياسة الدولية بجماعة محمد الخامس بالرباط لـ الوطن، إن ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها من تونس يوم 17 ديسمبر 2010، كانت حدثاً استثنائياً في التاريخ، ومادة ملهمة لإعادة كتابة المفاهيم السياسية في العالم وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص، حيث خرج الشعب كالمارد في لمح البصر احتجاجاً على الفقر والتهميش وتبديد موارد الدولة وسوء الإدارة، استجابة لصرخة فقير وهو محمد البوعزيزي، الذي هو من الشعب، ويمثل السواد الأعظم من الشعوب العربية التي اكتشفت فجأة أن الأنظمة الديكتاتورية التي تعج في الفساد هي أنظمة هشة، نخر عرشها الفساد، تعاني من نتاج سياساتها كما عانى الشعب، فسقطت قدسية الحاكم، وهوت هيبته تحت أقدام الغاضبين، ليصبح الغضب التونسي ملهماً لدول الجوار، فخرج المصريون والليبيون واليمنيون والسوريون، مطالبين بخلع الأنظمة الفاسدة، منذ عام 2011 حتى الآن، مرت المنطقة بتحولات وأحداث عديدة، كانت محل دراسة الباحثين في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي المغرب تحديداً أعد عشرات الباحثين دراسات حول ثورات الربيع العربي تناولت الأوضاع من مختلف الزوايا، ووثقت الانتصارات والانكسارات حدثاً بعد حدث، وأهم الدراسات في المغرب -من وجهة نظري- أعدها الباحث أحمد جابوري، المعيد في كلية السياسة والاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط، تحت عنوان: «تفكيك الثورات العربية» حول مآلات الربيع العربي بداية من تونس وحتى السودان، ربط خلالها الباحث بين ثورات «تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، الجزائر، السودان» من حيث حجم الفساد الداخلي قبل الربيع العربي استنادا إلى تقارير دولية ومحلية، وموارد كل دولة الطبيعية وحجم الدخل القومي، ليخلص في النهاية إلى أن الربيع العربي لم يكن «ثورة جياع» وإنما احتجاج صاخب ضد الفساد وسوء الإدارة الواضح جداً، وتبديد مصادر الدولة ومواردها لصالح حاشية وأتباع النظام و«أهل الثقة» في كل إدارة، وكانت الأرقام صادمة حول حجم الفساد في دول مثل السودان الذي كان يمكن أن يكون سلة غذاء العالم لولا الفساد وسوء التدبير، والجزائر كذلك، وتنبأ الباحث في دراسته بنجاح الشعوب العربية في نهاية المطاف في إدارة موارد الدول بعد مشوار لن يكون قصيراً من الاحتجاج وتصحيح الأوضاع داخلياً حتى ولو هزمت الثورة لبعض الوقت.
حقوق الإنسان
وأضاف خوسيه فاسنتو، أستاذ القانون الدولي بجامعة برشلونة وعضو المنظمة الملكية الإسبانية لحقوق الإنسان بمدريد، أن الشعوب العربية قطعت رحلة طويلة شاقة في سبيل التحرر منذ انطلاق الربيع العربي في تونس حتى الآن، فالوضع قبل 2011 ليس كما هو بعده، فالأنظمة التي كانت تحكم الشعوب بقبضة حديدية مثل تونس ومصر والسودان والجزائر ولبنان والعراق وسوريا واليمن، هوت سريعاً أمام قوة الشعب، تحطمت المعتقلات وهربت الشرطة من الشوارع، ليبدأ تسطير جديد لتاريخ حقوق الإنسان في المنطقة، وثقته مراكز بحثية دولية وإسبانية، وخاصة دراسة للأكاديمي الإسباني بجامعة برشلونة، إغناسيو أورتيز بلاسيو، استشهدت بها منظمة العفو الدولية في تقاريرها الدورية، كان عنوانها: «حالة حقوق الإنسان في منطقة الربيع العربي»، سرد خلالها حالة حقوق الإنسان قبل ثورات الربيع العربي وبعدها، ليخلص أنه برغم الأحداث والاضطرابات والمواجهة الشرسة بين الشعوب والأنظمة المتعاقبة إلا أن حالة حقوق الإنسان حالياً أفضل مما كانت عليه من قبل، مؤكداً أن القتل والاعتقال المواكب للاحتجاجات وإن كان يبدو للرأي العام الدولي أنه أكثر وأبشع إلا أن الأرقام الحقيقية تؤكد أن ما كان يحدث في صمت قبل الثورات كان أبشع وأكثر من حيث الكم والكيف، مرجعاً سبب الشعور بأن الثورات كانت سببا في نزيف الدم واعتقال الآلاف لكسر حاجز الخوف وسهولة تداول أخبار القتل والاعتقال عن ما كانت عليه في السابق، لكن نتيجة الاحصائيات المؤكدة لمنظمات إقليمية ودولية تؤكد بما لا شك فيه أن هامش الحرية بات أكبر، وأن حاجز الخوف قد تحطم للأبد، رغم ما قد يبدو من انهزام لبعض الثورات وتصدر أنظمة ديكتاتورية من جديد، لكن هذا لن يدوم طويلاً لأن حاجز الخوف تحطم، وثقة الشعوب في الثورة مازالت قوية، وبالتالي فإن الزمن يستحيل أن يعود إلى الوراء، والحرية قادمة مهما بلغت قوة مقاومة الأنظمة للشعوب.
ظواهر اجتماعية
وأكدت أديث موستاكي، مديرة حملة «السلام والحياة» المناهضة للحروب والنزاعات حول العالم وأستاذة علم الاجتماع بجامعة باريس الحرة، أن تاريخ الثورات العربية الممتد لتسع سنوات -عقد من الزمان تقريباً- تضمن ظواهر اجتماعية مهمة للغاية كانت محل اهتمام الباحثين حول العالم، مثل حالة الترابط والتآزر بين المحتجين، فنلاحظ في تونس ومصر والسودان والجزائر ولبنان والعراق أن الثوار في أشد الأوقات عنفاً ودموية كانوا متلاحمين بشكل لافت، حريصين على بلادهم، ينظفون الشوارع، يتطوع الجميع لخدمة بعضهم، من أطباء وحملات تبرع لتوفير الغذاء والدواء ومستلزمات المعيشة، تختفي السرقة والجرائم تماماً، على عكس ما هو متوقع في مثل هذه الأوقات من انتشار للسرقة وسط الفوضى، ظاهرة لفتت انتباع علماء الاجتماع حول العالم، ففي عز معارك الكر والفر بين الشعب وقوات النظام يتسلح المحتجون بالغناء والمقاومة الناعمة التي عنوانها الاتحاد والتلاحم، ظواهر فريدة وثقتها كاميرات المصورين حول العالم، وأضافت بعداً هاماً لدراسات علم الاجتماع حول العالم، حيث أكدت بشكل متكرر أن الثورات لا تنتج الفوضى، بل تعيد ترتيب المجتمع بشكل حقيقي دون تنظيم، بشكل فطري قد يتعرض لهزة أو انتكاسة لكن جموع المتظاهرين يتداركون ذلك سريعاً ويقومون بشكل تلقائي بترتيب الصفوف وتقويم السلوك، وهذا ما وثقه الكثير من الباحثين حول العالم خلال السنوات التسع الماضية.
ثورة تصحيح
وعن الجوانب الاقتصادية، أوضحت هيرتا فريدريك، أستاذة العلوم الاقتصادية بجامعة هومبولت ببرلين، أن المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج غنية بالموارد الطبيعية، وليس صحيحاً على الإطلاق أن ثورات الربيع العربي هي ثورة «جياع»، إنما هي احتجاجات شعوب تم تجويعها عمداً، جوعها الفساد وتبديد الثروات وسوء الإدارة، لا يمكن أن نقول إن ليبيا التي تسبح على بحر بترول دولة فقيرة، إنما نظام القذافي بدد ثرواتها على نزواته وخرافاته ومعاركه الخيالية بشكل انعكس سلباً على المجتمع الذي قبع تحت حكمه لأكثر من أربعة عقود، فتجمد كل شيء في البلاد تقريباً، أصبحت دولة فقيرة في كل شيء، تعليم وصحة وخدمات ومرافق، حصار وفقر وقهر، كذلك الحال في السودان، الذي كان يمكن أن يكون سلة غذاء العالم، أرض النيل الخصبة، كيف تصبح بهذا الفقر والدمار، ليست قلة موارد إذن، انما سوء إدارة واضحة، والعراق الذي تفيض أراضيه بالثروة الطبيعية من بترول ومعادن وزراعة كيف يكون حاله كما نراه، الطائفية والفساد وسوء الإدارة بالتأكيد هي السبب، مقياس واحد ينطبق على جميع الدول، لهذا فإن القول بأن الربيع العربي ثورة جياع غير حقيقي، بل هي ثورة تصحيح مسار وإدارة ثروات، وبالتأكيد سوف تنجح هذه الثورات في إدارة موارد الدول وتغيير الأوضاع، فالمارد الذي خرج من قمقمه لن يعود، ومهما بلغت مقاومة الأنظمة وصمودها فلن تستطيع قهر الشعوب وإسكاتها إلى الأبد.
أدوات الشعب
واختتم روجر كولين هرت، الخبير العسكري والضابط السابق بوزارة الدفاع البريطانية، بالتأكيد على أن مسار الربيع العربي من تونس حتى لبنان والعراق، يؤكد أن أهم أدوات الطغاة هي «الشرطة والجيش»، ينجع في بداية الأمر في تحريكها ضد المحتجين، لكنه سريعاً ما يفقد السيطرة عليها لتنقلب لصالح الشعب الذين هم جزء من نسيجه، مثلا في تونس انضمت الشرطة للمتظاهرين بعد معارك انتهت بغلبة الشعب، وفي مصر تكرر الأمر نفسه، وفي السودان والجزائر ولبنان، الأدوات القمعية «الجيش والشرطة» أثبتوا دائماً أنهم الشعب، جزء لا ينفصل عن الشعب رغم المغريات التي تشق الصف بين الحين والآخر، وشعارات الخيانة ونظرية المؤامرة التي يرددها الإعلام لقلب دفة الأحداث، لكن نبض الشارع يكون دائماً الغالب وصوت المحتجين يكون الأعلى، لهذا لا يمكن لعاقل أن يتنبأ بانتصار النظام ضد الشعب، مهما بلغت قوته وصموده، فبشار الأسد لم ينتصر ولم يفز بدولة، ولا أي حاكم لا يعقد اتفاقاً مع شعبه يرضيهم عن طريق الحوار، فالاحتجاجات لن تتوقف أبدا، ولا يمكن لحاكم أن يكون آمنا بعد هذا العمر من الاحتجاجات والثورات المتفجرة في كل مكان أن يحكم بنفس أدوات ما قبل 2011، فالربيع العربي فرض أدوات جديدة للحكم والتعامل مع الشعوب، والغلبة في النهاية لمطالب الشعب، وأهمها العدالة وحسن الإدارة، وهي غاية باتت قريبة.
copy short url   نسخ
25/01/2020
1219