+ A
A -
أدهم شرقاوي
عاد المسلمون من أُحُدٍ بالهزيمة، وهزيمةٌ تُربيك وتكسرك وتُريك خطأك خير من نصرٍ يُطغيك! أراد الله سبحانه أن يُربي هذه الأمة ويُخبرها ألا نصر إذا لم يُطَعْ عبده ورسوله!
ولأن فقد الأحبة مُوجع، والفِراق أليم، والصحابة بشر، خيَّم عليهم الحزن، حتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كُلِمَ بفقد عمه، وظلَّتْ خسارة حمزة جرحاً ينزُّ داخله إلى أن فارق الدنيا! ولكن على الحياة أن تمضي، فلملموا جراحاتهم، وطيَّب بعضُهم خاطر بعض، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأكثر تطييباً للخواطر رغم أنه كان الأكثر ألماً! ولقيَ يوماً جابر بن عبد الله بن حرام، فقال له: يا جابر، ما لي أراك منكسراً؟
فقال له: يا رسول الله قُتِلَ أبي يوم أُحُد، وتركَ عيالاً ودَيْناً!
فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: أفلا أُبشركَ بما لقيَ اللهُ به أباك؟
قال: بلى
فقال له: ما كلَّم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، ولكنه أحيا أباك فكلَّمه كِفاحاً، وقال له: عبدي تمنَّ عليَّ أُعطِكْ! فقال: يا رب أن تُحييني فأُقتلَ فيك ثانية! فقال الربُّ عزَّ وجل: إنه قدَ سبق َمني أنهم إليها لا يُرجعون!
ما أعذبها من عبارة: يا جابر ما ليَ أراك منكسراً؟!
أحياناً لا يريدُ الناسُ أكثر من كلمة حلوة، وتربيتة على الكتف، وأن تُخبرهم أنكَ تهتم، وأنه يُوجعك حزنهم. إن الكرم ليس مالاً فقط، الاهتمام كرم أيضاً، والمواساة أحياناً تُساوي مال الدنيا كلها! فهل طبقناها في حياتنا، هل رأينا حزناً بادياً على وجه صديق فسألناه ما به، هل أشعرناه أننا نهتم، وأننا بجانبه وعلى استعداد لفعل أي شيء لنُزيل عنه بعضاً ممّا نزل به، أم تعاملنا مع الناس على مبدأ: لا يهمني أحد ما دمتُ أنا بخير!
كان جابر يعرفُ أنَّ أباه قد ماتَ شهيداً دفاعاً عن دينِ الله وشريعته، وأن آخر لحظات عمره كانت تحت راية النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ويا لها من خاتمة، ولكن كل هذا لم يُلغِ أنه يحتاج من يُذكره بفضل أبيه، فلا شيء يرممُ فقد الدنيا سوى معرفة أن الآخرة خير منها وأبقى، فإذا عزيتَ أهل عزاءٍ بفقيدهم ذكِّرهم بحسناته وأخلاقه في الدنيا، وأن المؤمن إنما ينتقل من جوار الناس إلى جوار الله، هذا وحده يُبلسم الجرح!
في الحديث لا يذكر جابرٌ أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قضى دين أبيه، ولكنه عليه السلام قد فعلَ، ليس مع جابرٍ فقط، وإنما حين كثُر المال كان يقول للمسلمين: من تركَ مالاً فَلِوَرَثَتِه، ومن تركَ دَيْناً فعلينا!
أحياناً يموت الناس في المستشفيات، ويتركون وراءهم حساباً ثقيلاً لا يستطيع الأهل تسديده، وأنتَ أعلم بحال الميت وأهله، فإن علمتَ فيهم فقراً، وقلة ذات يد، سَلهم إذا ما كانوا يحتاجون شيئاً، والأنبل لو بادرتَ بالمساعدة من غير سؤال إذا غلبَ على يقينك أنهم أهل حاجة، فلا يجتمع عليهم ألم الفقد، وثقل الدَّين!
بقلم: أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
21/01/2020
1918