+ A
A -
همسة
منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها شعار «أفلا تتفكرون»، حملتني هذه العبارة إلى عالم مختلف تمامًا بعيدًا عن رغباتي في عرض كتابي الجديد «كن إنساناً»، أو التفكير بطريقة مميزة لتدشينه، ليس هذا فحسب، فإن الظروف المريرة المحيطة بي من كل جانب، وهذا الحزن العميق الذي قرر أن يقبع في دروب حياتي منذ ثلاث سنوات، ودموع أمي المريضة هناك في بلدي الحبيب الغالي - الرازح تحت وطأة الحزن والألم، الفقر والجوع -، كل هذه الظروف زادتني قناعة، أنني لن أحظى هذا العام بلحظة فرح أدشن بها كتابي الجديد في معرض الدوحة «كن إنسانًا» ولن أنعم بتوقيع اسمي على صفحته الأولى، فلقد وصلت إلى صفحة في حياتي ملأتني ألمًا، ولن أتمكن من قلبها مجددًا، فلقد خارت قواي في مقاومة الألم.
وجلست في تلك الليلة، أتصفح صور كتاب لي وزملاء وهم يوقعون كتبهم، ويطلقون حروفهم حرة في آفاق فكرية جديدة، وتساءلت «أيحق لي وأنا حبيسة هذه الظروف المؤلمة أن أحلم بقليل من الفرح ؟»، وتأملت في «أفلا تتفكرون» مجددًا، لأجد نفسي قد حملتني إلى ذلك اليوم البعيد والقريب في آن، حين قررت أن أساعد صديقة لي في تحويل بيتها الجميل - الذي كان يمثل لها كل حياتها - إلى وقف بعد مماتها.
في البداية لم أكن أدرك ما نوع المساعدة التي أقدمها لصديقتي، ولكنني كنت فقط هناك لأستعلم عن الطريقة لتحقيق حلم صديقتي وأفاجئها بأنني قد جمعت لها المعلومات لتشعر بالسعادة، ولكن القدر ساقني إلى سعادة مختلفة، أدركتها وأنا قابعة ما بين شعار «أفلا تتفكرون» وعنوان كتابي «كن إنساناً» الذي دونته بحروف تشبه «أبي».
في منطقة فيلاجيو بالتحديد، وفي ذلك المبنى الصغير العظيم «مبنى الوقف الإسلامي»، قابلت هناك رجلاً قطريًا يشبه قطر بكل تفاصيلها «الأستاذ جاسم، طيب القلب، منير الوجه، رحومًا وصادقًا»، أخذ يحدثني بهدوء الإنسان المؤمن عن أهمية الوقف في حياة كل منا، وعن عظمة هذا العطاء الذي يمد جسور الخير لنا خلال الحياة وبعد الموت، وغادرت مكتبه فناولني حبة شوكولا حلوة الطعم، كحلاوة عطاء قطر، ومضت الأيام، ليعود لي اليوم بكلماته العميقة، هاتفته وأخبرته: «لقد قررت أن أحول الحرف إلى وقف»، وانسابت كلماته المختارة بعناية والملونة بإيمان صادق تسرد لي الطريقة ليتحول الحرف إلى وقف.
وللمرة الأولى في حياتي، أحببت قلمي، حملته وضممته إلى صدري، وأخبرت حروفي في كتابي الجديد «كن إنسانًا»، وأنا أعتذر لها عن غيابي عن إطلاقها في تدشين يليق بها، أنها ستتحول إلى وقف، وأنها ستحصد فرحًا لن تحصده من توقيعي لكتابي.
ثم نظرت إلى صورة والدي رحمه الله التي تزين الوحدة في غرفتي، وأخبرته: «سأحول كتابك يا والدي «كن إنساناً» إلى وقف، وأيقنت أنني ربما حُرمت من توقيع كتابي الجديد بالحبر، ولكنني مع «أفلا تتفكرون» وقعت كتابي بحبر آخر، حبر رحمة خالصة لوجه الله.
ربما – نحن الكتاب – ننير آفاق الفكر دائمًا بحروف، ولكنني بت موقنة، أن حروفنا ستتلألأ خيرًا لو حولناها – ولو لمرة واحدة – إلى وقف يشكل لنا جسرًا يتلألأ بالرحمة والدعاء، بشكل مختلف لتحيا حروفنا يوم نغادر هذه الحياة، «أفلا تتفكرون».
كاتبة لبنانية
copy short url   نسخ
18/01/2020
501