+ A
A -
كتب - محمد الجعبري
لطالما كانت الخيول حاضرة في مخيلة مقبول فدا حسين منذ لوحاته الأولى في خمسينيات القرن الماضي وصولًا لمعرضه الفني عاديات الشمس في المتحف العربي للفن الحديث، حيث سلط الفنان مقبول فدا حسين أثناء إقامته في قطر، الضوء على الخيول في مناخ الحضارة العربية والإسلامية، ويمكننا ملاحظة شغفه بالخيول في العمل الفني الذي تناول أسماء الله الحسنى أيضًا.
لذلك عندما صمم الفنان خاتمة أعماله وأكثرها فرادة سيروا في الأرض كان من الطبيعي أن تكون الخيول حاضرة كتجسيد لروح الإبداع في التاريخ العربي الإسلامي، ولكن هذه المرة لن تكون الخيول وليدة فرشاة حسين التي يبلغ طولها مترًا، بل ستولد في أفران ورشة «آرس مورانو» في فينيسيا على صورة مجسمات زجاجية.
لم يختر مقبول حسين هذه الورشة لسمعتها الطيبة وجودتها الممتازة حصرًا، بل لوفائهم للتصاميم التي تصلهم بدون أي إضافة غير محسوبة، دع عنك استخدامهم لمواد صديقة للبيئة.
أشرف فريق من الحرفيين المتمرسين على مشروع مقبول حسين، وهم الوالد رينزو فيانلو وابنه ماثيو وزميلتهم مارينا رافايلي وعملوا سويًا على صناعة المجسمات الزجاجية، وقال الابن ماتيو في هذا الصدد: «كان الفنان سعيدًا يوم عرف بأن الخليط الكيميائي الذي سنستخدمه لا يتضمن مادة الرصاص، فغالبية الورش الأخرى تستخدمه بنسبة 20 % في خلطاتهم، كما أن كل قطعة فنية نشرف عليها تُصنع وتُنحت يدويًا فنقلل من استخدام الأدوات الكهربائية والأجهزة الصناعية الثقيلة».
أدرك ماثيو أهمية المشروع وضخامته بعد أن قابلوا مقبول حسين للمرة الأولى، ويتذكر ذلك قائلًا: «أدركنا منذ البداية فرادة المشروع. عملنا من قبل مع فنانين مشاهير في صنع خيول بنفس الحجم ولكن من الزجاج البلوري، هذه المرة الأولى التي نصنع فيها مجسمات بهذا الحجم من الزجاج المصقول باليدين والذي يشبه الكريستال في نقائه وصفائه في حلته النهائية».
حرص الفنان مقبول حسين على أن تُظهر مجسمات الخيول تطور الحضارة وتعكس قيم الإنسانية ولذلك صممها بألوان مختلفة؛ فالأزرق يرمزُ للثقة وللبحر والسماء، والأحمر للنار والشغف والقوة، والأخضر للحياة والانسجام والطموح، أما اللون الكهرماني قرين الزعفراني والمرتبط بالهند فيرمزُ للطاقة والجسارة والوعي، وأخيرًا اللون الأبيض حامل الحكمة المتعالية عن التلاعب والتأويل.
لم يتمكن حرفيو آرس مورانو عندما باشروا العمل من سكب المجسمات في قالب واحد لضخامتها؛ فصنعوها على مراحل من أجزاء صغيرة حوالي 30-40 قطعة للمجسم الواحد ثم جعلوها على هيئة مجسم متكامل، وكان لابد من متابعة دائمة وحرص بالغ حتى تصبح جملة هذه القطع الصغيرة مجسمًا ناجزًا لحصان كبير، بطبيعة الحال كان حجم أول مجسم ناجز حوالي طنين.
يخبرنا ماثيو بتفصيل لطيف عن إحدى عادات مقبول حسين التي أقلقتهم أيضًا فيقول: «إن صنعتنا هي الزجاج وهو بطبيعة الحال يتكسر، أتذكر قلقنا عندما عرفنا بأن حسين يمشي حافيًا، قمنا حالتئذ بتنظيف أرضية الاستوديو بتروٍ كيلا نترك أي قطعة زجاج قد تؤذيه».
شعر فريق آرس مورانو بالسعادة لما فِرغوا من صناعة المجسمات، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا بأن المجسمات الناجزة أكبر من باب الورشة، تحدث ماثيو عن هذه الورطة قائلًا: «لأول مرة منذ أن أنشأنا هذه الورشة نضطر لهدم الباب الأمامي كي نُخرج المجسمات، وحتى الرحلة للمطار لم تكن سهلة فشوارع فينيسيا ضيقة ومليئة بالنتوءات الحجرية، ونحن نحمل خمسة مجسمات زجاجية يزن كل واحد منها طنين، تخيل!».
إن إقامة الفنان مقبول حسين في فينيسيا للإشراف على ما أصبح آخر مشروع له تعيد للذاكرة إحدى وظائفه الأولى كصانع ألعاب ومجسمات مع شركة في مومباي، وكانت هذه التجربة فريدة أيضًا بالنسبة لورشة آرس مورانو، وقال حرفيو الورشة بأنهم لن ينسوا هذا الفنان بالرغم من مطالبه الصعبة وحسه العالي بالمثالية في العمل، لكنهم لن ينسوا أيضًا ردة فعله الأولى عندما شاهد أول مجسم ناجز، يتذكر ماثيو ذلك ويقول: «عندما شاهد حسين أول مجسم مكتمل ورأينا ردة فعله زال عنا التعب الذي عشناه. احتضن حسين المجسم كما لو كان طفلًا صغيرًا يحتضن لعبته، وأخبرنا بأن ما صنعناه فاق توقعاته، وقرر حينها تعديل الاتفاق وطلب منا صناعة خمسة مجسمات بدلًا من ثلاثة، هذا هو حسين الذي عنه تسألون».
وكان المتحف العربي للفن الحديث، قد احتفى بالفنون التشكيلية الهندية من خلال معرضين، الأول بعنوان «مقبول فدا حسين: عاديات الشمس»، من أعمال أشهر الفنانين في الهند على الإطلاق، الراحل مقبول فدا حسين، والذي يعد أحد أبرز الأعلام التي أثرت الثقافة الهندية المعاصرة وتاريخ الفنون في القرن العشرين.
حيث جاءت أعمال الفنان مقبول فدا حسين، التي تم ترتيبها بشكل فني وموضوعاتي، بأحجام كبيرة، خصوصا تلك التي تتحدث عن رمزية الأديان، فضلا عن احتواء المعرض على مذكراته، واحتفائه باللغة العربية في بعض الأحيان، وذكرياته في اليمن.
ويعد مقبول فدا حسين، الذي توفي عام 2011 عن عمر ناهز ثمانية وتسعين عاما، واحدا من أبرز الشخصيات المؤثرة في فن الحداثة في الهند. وقد وُلد الفنان الراحل في باندهاربور، ونشأ وترعرع بين مدينتي إندور وسيدبور، وأقام في بومباي، كما عاش مقبول حسين قرنا من أعنف القرون التي سجلها تاريخ البشرية وأكثرها إثارة في الوقت ذاته.
ووصَف حُسين نفسه بأنه رحّالة عالمي نسج أواصر علاقات قوية مع كلِّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية وتشيكوسلوفاكيا والعالَم العربي عموماً، وقطر على وجه الخصوص بالنظر إلى أنها منحته الملجأ عندما أجبرته الظروف السياسية المضطربة إلى اختيار المنفى بعيداً عن وطنه الأثير.
ويشتهر حُسين بلغته البصرية التي تركّز على ثراء الحضارة الهندية، بينما تنخرط أعماله في الأزمات والانتصارات التي يختبرها مجتمع يعيش المرحلة الانتقالية التي أعقبت الاستعمار، وفي أعماق الحياة الريفية الهندية، وتنوّع أديان العالَم، وكذلك الملاحم والسرديات الأسطورية الهندوسية. ويُنظر إلى حسين باعتباره فناناً متنوّع الخصال الإبداعية بشكل لافت جداً، حيث تراوحت مسيرته الفنية بين الرسم والشعر والعمارة والأفلام.
copy short url   نسخ
12/12/2019
1316