+ A
A -
جمال الهواري كاتب وصحفي مصري
تمثل تونس رمزية خاصة لدى شعوب المنطقة العربية بثورتها المعروفة بثورة الياسمين، والتي أعطت شرارة البدء لثورات الربيع العربي أواخر 2010 وتجربتها الديمقراطية الفريدة، حيث جرت الأحد الماضي جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، ليختار الشعب التونسي في انتخابات حرة نزيهة الرئيس الثالث بعد سقوط نظام بن علي منتصف يناير 2011 وهروبه إلى منفاه الاختياري في السعودية حتى وفاته سبتمبر الماضي.
وضعت الانتخابات الرئاسية في تونس أوزارها وأعلنت عن ساكن قصر قرطاج الجديد كرئيس للبلاد في السنوات الخمس القادمة واختار الناخبين وبفارق شاسع وبنسبة بلغت قرابة 73 % من الأصوات حسب ما أعلنته مؤسسة سيمرود لسبر الآراء المرشح المستقل قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري رئيسًا جديدًا للبلاد، وجاء الاختيار بمثابة رسالة شديدة اللهجة متعددة النقاط والأهداف وصفعة جديدة لمعسكر الثورة المضادة وتؤكد زيف الادعاء القائل بعدم جاهزية الشعوب العربية للديمقراطية والدفع بقلة وعيها السياسي وعدم قدرتها على الاختيار السليم وسهولة خداعها عبر الإعلام الموجه والمضلل، حيث جاء الرد مزلزلاً من تونس، حين اختار الشعب رئيسا مستقلا لا ينتمي لأي حزب سياسي على الساحة التونسية، أكاديمي يتحدث العربية الفصحى، قريب من الشباب الذي فقد الثقة في كل الكيانات السياسية التقليدية، مدافع عن الثورة ومبادئها، زاهد في المناصب السياسية، اعتمد على خطابه ومجموعة عمل داخل شقة صغيرة وسيارة متواضعة جاب بها أرجاء تونس، رفض الدعم الذي تقدمه الدولة للمرشحين، جمعت شخصيته وتوجهاته وآراؤه مزيجا يماثل مكونات الشعب التونسي بمختلف توجهاتها، ليأتي التصويت لصالحه كاسحًا، خاصة بين أوساط الشباب بمختلف انتماءاتهم في ما يشبه التصويت العقابي ضد الكيانات السياسية المتواجدة على الساحة، حين اختار للرئاسة شخصية من خارجها لم يطلق الوعود البراقة، بل كانت وعوده وبرنامجه منطقيا وقريبن من أرض الواقع المختلط بمطالب الثورة المهتم بالطبقات الفقيرة من الشعب بوجه خاص.
وأتت نتيجة التصويت لتبرهن أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة وبقوة في الوجدان والضمير الشعبي العربي، رغم كل ما يدور في المنطقة من صراعات ونزاعات الكثير منها اصطبغ بلون الدماء، وأجزم أن نقطة التحول المحورية في طريق وصول قيس سعيد لقصر قرطاج جاءت من اللهجة القاطعة والحازمة التي أجاب بها عند سؤاله عن التطبيع مع دولة الاحتلال والتعامل معها أثناء المناظرة التلفزيونية مع منافسه رجل الأعمال نبيل القروي، فجاءت إجابة سعيد أن التطبيع لفظ خاطئ وأن التعامل مع الكيان الصهيوني خيانة عظمى، في حين كانت إجابة القروي بعدم الممانعة في التعامل والتعاطي معه، ثم يعود قيس سعيد ليؤكدها من جديد حين ينبهه القائمون على إدارة المناظرة ببقاء بضع ثوان في وقته، في حين كشفت وثائق نشرتها وزارة العدل الأميركية تعاقد نبيل القروي مع ضابط المخابرات الإسرائيلية السابق آري بن ميناشي الذي يرأس شركة «ديكنز ومادسون» للضغط والعلاقات العامة وتضمن طلب القروي الحصول على دعم أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي للوصول لمنصب الرئيس، وبغض النظر عن صحة تلك الوثائق من عدمه، فقد جاءت إجابة القروي بقبوله التعامل مع الاحتلال لتقلب الطاولة عليه وتقطع في طريقها أيضًا السبل أمام حصوله على الأصوات الكافية للفوز بالانتخابات.
جاءت نتيجة الانتخابات لتثبت من جديد أن كلمة السر هي تونس، وأن مصدر القوة هو الشعب، وأن الطريق للحصول على تأييد الشعب ودعمه قبل أصواته، هو مخاطبته بالخطاب المناسب دون رتوش والقرب منه دون حواجز والإنصات إليه دون استعلاء وتلبية مطالبه دون منّة، جاءت رسالة الشعب التونسي واضحة أن الربيع العربي مستمر مهما حاولوا وأده والشعوب تدرك جيدًا ما يناسبها وينتمي إليها فتختاره بلا تردد مهما كانت المغريات أو التهديدات والعقبات، وأرسل الشعب التونسي عبر صناديق الاقتراع رسالة للجميع من معسكري الثورة والثورة المضادة، رسالة جرت على لسان الشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي منذ عقود، مفادها:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.
الشعوب هي من تنتصر وتفرض كلمتها في النهاية، طال الزمن أم قصر، هنيئًا لتونس عرسها الديمقراطي، ولا عزاء لأعداء الإنسان في معسكر الثورة المضادة.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
16/10/2019
536