+ A
A -
علي الصاوي كاتب مصري
يقول الكاتب الفرنسي «جوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجية الجماهير»: «وأمّا الذين لا يُشاطرون الجماهير إعجابها بكلام الزعيم يُصبحون هم الأعداء..»، منطق جماهيري قديم لا يعرف غير الولاء المطلق للحاكم، ووصم كل مخالف لسياسته بالخيانة وعدم الوطنية، ولم أسلم أنا شخصيا من هذا الاتهام الخالي من أدنى درجات الواقعية والعقلانية، أثناء تفاعلي مع الأحداث في مصر، بعد كتابة رأي على صفحتي في «فيس بوك» أعبر فيه عن وجهة نظري في ما يحدث.
اتهمني صديقي بعدم الوطنية، وأن الستار أزيح عني وظهرت حقيقتي أني منتم لتيار الهدم، ودخل آخر يفسر كلامي بأنه دعوة لتدمير مصر، ولا أجد مبررا لهذا الهجوم، لا سيما أن كلامي كان في إطار المصلحة العامة للوطن، وإنهاء معاناة المصريين، لكني توقفت قليلا أمام هذه الظاهرة، ظاهرة إلقاء التهم الجاهزة لمجرد أنك مخالف لغيرك ولا تسير في ركب النظام تصفق وتهتف كما يفعلون.
عدت بالذاكرة للوراء، وبالتحديد في أميركا ما بين 1947 و1957، عندما ظهر مصطلح المكارثية نسبة إلى (السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي) الذي وقف يوما في ذكرى ميلاد الرئيس أبراهام لينكولن ليعلن أن وزارة الخارجية مليئة بأعضاء الحزب الشيوعي ويعملون جواسيس لروسيا، وأخرج ورقة من جيبه تضم حوالي 200 شخص يتهمهم بخيانة أميركا، وتجرأ مكارثي باتهام قيادات دبلوماسية رفيعة المستوى، مستغلا حالة التأييد الأولية للمكارثية بين الأميركيين خوفا من تمدد الشيوعية داخل البلاد.
ومن هنا بدأت حملة ملاحقات كبيرة للنيل من المعارضين، ومن يشتبه فيه أنه يميل إلى الشيوعية، فتحولت المكارثية إلى أداة قمع لكل مخالف للرأي ومعارض لسياسة الولايات المتحدة، ولم يكتف مكارثي ببلاده، بل خرج يجوب أوروبا لوضع المخالفين والكتاب اليساريين في قائمة سوداء أوروبية!
تحولت المكارثية إلى فزاعة للأميركيين، حتى امتدت لجميع القطاعات وتم فصل آلاف الموظفين بتهم ملفقة، وتعاون مع مكارثي مكتب التحقيقات الفيدرالي في تمرير وثائق تبدو كأنها تحمل أدلة تجسس ضد المئات من المهنيين والمدرسين والمحامين وغيرهم، ليتم فصلهم والتحقيق معهم، كما طالت المكارثية المشاهير من الكتاب والفنانين والسياسيين البارزين، أمثال مارتن لوثر كينج وأينشتاين وارثر ميللر وتشارلي شابلن.تهم فضفاضة وجهها مكارثي لكل من يراه من وجهة نظره عدوا للوطن، داعيا الأميركيين إلى طرد جميع الخونة من المناصب الإدارية المختلفة، لكن الأمر لم يستمر طويلا، فبعد خمس سنوات من الرعب بدأت تنمو حالة من الوعي بين المواطنين، وقام كل من الإعلامي إدوارد مارو والكاتب أرثر ميللر بالتصدي لمكارثي وفضح دعواته الهدامة لتمزيق النسيج المجتمعي وقمع الحريات، في بلد يعد من رواد حرية الرأي والتعبير في العالم، وساندتهما في ذلك مجموعة من المثقفين والصحفيين لوضع حد لهذا الإرهاب الفكري القائم على التشويه والإقصاء لكل صوت معارض.
انتهت المكارثية بعد حملة وعي شارك فيها دعاة الفكر والتنوير عبر تفنيد دعاويها الكاذبة، واتهم جوزيف مكارثي بالتزوير إلى أن مات مدمنا عام 1957، لكن فكرته لم تمت، وظلت جذوتها مشتعلة تحت الرماد إلى أن جاء الربيع العربي بثوراته على الأنظمة المستبدة، لتعود المكارثية من جديد بنكهة شرقية أكثر تطرفا، كتهمة معلبة يُرمى بها كل مؤيد للتغيير، من قبل الفئات المنتفعة من بقاء الفساد واستحكام الظلم.
إن حرية الرأي ليست جريمة، والاختلاف في الرؤى والمواقف ليس دليل خيانة، بل الخيانة الحقيقية هي تجميل الفساد وتبرير العدوان والتنكر لما يمر به الوطن من أزمات طاحنة وضيق في الحريات تحت ذرائع واهية، كالحفاظ على الأمن القومي، ومحاربة الإرهاب، ومواجهة أهل الشر، في حين أن هذه الأنظمة ومن يسيرون في ركابها يمارسون كل أنواع الإرهاب الفكري والسلوكي بحق أي معارض لهم. فالأنظمة المستبدة تتفنن في صناعة عدو لها، من أجل بقاء شرعيتها الزائفة، والحفاظ على تماسكها والسيطرة على الجماهير، يساعدهم في ذلك إعلاميون منافقون ومواطنون منتفعون.
{ عن «عربي 21»
copy short url   نسخ
09/10/2019
155