+ A
A -
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري كاتب قطري- عميد كلية الشريعة سابقاً
خمسون عاماً، ومنظومتنا التعليمية والثقافية تشحن عقول طلابنا بفرضية الجهاد، تلقنهم: كيف يموتون في سبيل الله، لا كيف يحيون في سبيل الله: يحبون، ويبنون، ويعمرون، وينتجون، ويبدعون، ويخترعون في سبيل الله. لم تعلمهم أن جهادهم الأكبر: كيف يوجهون طاقاتهم في علم نافع، وفِي نشاط مثمر يسهم في تقدم وتنمية أوطانهم، وفي توطيد قيم الحق والحرية والعدل وكرامة الإنسان.
إن الحياة عزيزة على الإنسان، فهي أعظم نعم الخالق تعالى، والإنسان لا يضحي بنفسه إلا من أجل الغالي والنفيس، ولا يترك الدنيا بمباهجها إلا من أجل حياة أكثر بهجة وخلوداً، فماذا الذي دفع هؤلاء الشباب الواعد، إلى الوقوع في فخ الجماعات التي تدعي جهادا، والجهاد منها براء؟! ما الذي جعلهم يرخصون حياتهم وحيوات الأبرياء، مسرعين إلى الموت: تفجيراً للذات وقتلاً للأنفس التي حرم الله قتلها؟ إنه الفهم الضال للجهاد، استحوذ على عقولهم ونفوسهم، وزين لهم باطلهم جهاداً، أولئك الذين قال تعالى عنهم «الذين ضَل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً» ووصفهم بأنهم «في ضلالهم يعمهون» يعيثون في الأرض فساداً، يهلكون الحرث والنسل، يفجرون أنفسهم، يقتلون الأبرياء في الأسواق والتجمعات والفنادق والمدارس والمستشفيات، وحتى المصلين في الجوامع والكنائس، يريدون إسقاط أكبر عدد من الضحايا، بهدف بث الرعب، ونشر الفوضى، وزعزعة الأمن والاستقرار، بزعم أنهم يجاهدون في سبيل عودة دولة الخلافة، وتطبيق شرع الله! إنما استحوذ عليهم الشيطان، فضلوا وأَضَلُّوا، وقد «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة» فهم لا يهتدون.
إننا جميعاً، دولاً ومجتمعات، ومؤسسات تعليمية وثقافية ودينية واجتماعية وإعلامية، مسؤولون عن حماية شبابنا من هذا المعتقد الضال، ومسؤولون عن تأمين مستقبلهم المهدد بالخطف، ولن يتحقق ذلك إلا بتفكيك بنية الفكر العنيف، واستنقاذ مفهوم الجهاد من قبضة هذه الجماعات.
علينا مراجعة المنظومة التعليمية عامة، والدينية خاصة، وإعادة النظر في كافة الروافد التي تغذي بحيرة الكراهية والتطرف التي تتسع يوماً بعد آخر، من تعليم وتربية وخطاب ديني وثقافي وسياسي وإعلامي، لتنقيتها من سموم التعصب والعنف والتمييز والإقصاء والعنصرية، سوء تجاه المرأة، أو الآخر المختلف مذهبا أو عنصراً أو ديناً.
كما أن علينا تدريس التاريخ بإيجابياته وسلبيات، ونزع الصفة التقديسية عنه، فهو تاريخ بشر يصيبون ويخطئون، بما في ذلك سياسات وحروب عصر الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، وكفانا تقديسا لتصرفات بشرية صارت في ذمة التاريخ.
علينا تخصيب مناهجنا التعليمية، العامة والدينية، بالقيم الإنسانية، وإعلاء قيمة الإنسان في ذاته، بغض النظر عن جنسه وعنصره ومذهبه ودينه، انطلاقاً من التكريم الإلهي للإنسان (ولقد كرمنا بني آدم) إعلان القطيعة المعرفية: لقد كان الأجدر بالعرب خاصة، وبالمسلمين عامة، بعد الكارثة الرهيبة التي ضربت أميركا، في 11 ستمبر 2001، وراح ضحيتها، 3 آلاف إنسان بريء، إعلان قطيعة معرفية شاملة مع تلك الينابيع الفكرية المسمومة التي لوثت عقول أبنائنا، وزينت لهم عملهم المعادي للحياة والأحياء، جهاداً واستشهاداً، كما فعلت ألمانيا بعد هزيمة هتلر، إذ أعادت النظر في المنظومة الثقافية الألمانية التي أنتجت هتلر ورفاقه وحزبه، وأعلنت قطيعة معرفية مع هذا التراث المسموم، وكذلك فعلت اليابان عقب هزيمتها، إذ رمت التراث الإمبراطوري خلف ظهرها، وهكذا كان الواجب علينا أن نفعل مع المنظومة الثقافية والفكرية التي أنتجت بن لادن والظواهري والزرقاوي والبغدادي ومن سار على دربهم.
لم تفعل دولنا استراتيجية تحصينية شاملة ترفع مناعة طلابنا وشبابنا تجاه هذا المعتقد الدموي الضال للجهاد، فاستمرت الكوارث الإرهابية التي أودت بحياة آلاف الأبرياء في الشرق والغرب.
أخيراً: لنصحح مفهوم الجهاد، ولندرس طلابنا أن جهادهم الحقيقي في تملك سلاح العلم والمعرفة والتقنية، وأما الجهاد في ميادين القتال فهو من مهمة الجيوش النظامية.
بقلم: د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
23/09/2019
219