+ A
A -
بقلم : إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
مصطفى ساعي البريد في قريتنا، عمره يناهز الثمانين عاماً، رجل في غاية اللطف، دائم الابتسام، يحبه الجميع، يجتهد في إيصال الرسائل بأسرع ما يمكنه، على الرغم من أن نظره قد بدأ يخبو، وبالكاد يستطيع رؤية العناوين على الرسائل.
كانت الرسائل التي تصلني قليلة جداً بالكاد تكون عشر رسائل على مدار العام، في صباح يوم أحد مشمس جميل، بينما كنتُ أَهُمُّ بالخروج من المنزل وجدت العم مصطفى (كما يحب أن نسميه) يضع لي رسالة في صندوق بريدي الواقف بشموخ أمام المنزل، شكرته وودعته ولم أكترث لأمر الرسالة حتى عدت بالمساء، حينها تذكرت أن أتفقد صندوق بريدي، لم يكن هنالك سوى رسالة واحدة، كانت تقبع هنالك وحيدة في صندوق البريد، رسالة بلون أصفر مميز، الغريب أن الرسالة لم تكن مغلقة بإحكام، ما إن إلتقطتها في يدي حتى وقعت الرسالة من داخل الظرف البريدي، فتحتها، فإذا بها رسالة حب تخاطب امرأة ما.
كانت كلمات الرسالة تفيض عشقاً، لا أعلم كيف سمحت لنفسي بقراءة رسالة ليست لي، لكن جمال الخط الذي كتبت به..الانتقاء المتقن للكلمات والمشاعر الملتهبة بين ثنايا الرسالة شدني لأكمل قراءتها، بلا شعور مني، وجدتني أبتسم في ختام الرسالة، أحببت صدق مشاعر المرسل وكمِّ العاطفة الذي يتدفق منها، أعدت طي الرسالة وتركتها على الطاولة لكي أعيدها بالغد للعم مصطفى لتعود إلى صاحبتها التي لا شك أنها بانتظارها، وجاء الغد وجاء معه العم مصطفى وسلمته الرسالة، بعد مضي أسبوع عدت من عملي في المساء لأجد الرسالة الصفراء المميزة تنتظرني في صندوق البريد، لقد أخطأ العم مصطفى ثانية، لكنني وجدت أنها رسالة أخرى غير سابقتها، بحثت عن عنوان المرسل فلم أجده، تركتها على طاولة الغرفة ونسيت أمرها لبضعة أيام، وذات يوم، بينما كنت أصفف شعري أمام المرآة لمحت الرسالة وهي تستلقي برشاقة وكأنها تنتظرني، كيف سبقت أناملي عقلي ووصلت إلى الرسالة لتعبث فيها وتفتحها !! لم أكن ممن يتطفلون على خصوصيات الغير، كنت أحترم الخطوط الحمراء ولا أتجاوزها، لكن لهذه الرسالة سحر غريب، فيها شيء ما جعلني أشعر أنها مرسلة لي وأن مرسلها يخاطبني، قرأتها وبكيت بحرقة؛ لأنني لمست كم هو حنون ومحب وصادق، كم هو إنسان مرهف القلب، بكيت لأنني أحسست بشوقه ولوعته، توالت أخطاء العم مصطفى في إحضار الرسائل وتوالت أخطاء أناملي بالعبث بها وفتحها، وظللت أقرأها كل مرة حتى وقعت في غرام المرسل، أحببته من غير أن أدري وكنت أغبط محبوبته عليه، تمنيت أن أكون أنا هي.. كانت محظوظة بحبه، بل إنها وافرة الحظ.
لكنني كنت أتساءل هل تفتقد رسائله؟
هل يا تراها تبادله هذا الحب؟
هل ترسل إليه متسائلة عن سرعدم وصول رسائله؟
هل هنالك من يستقبل رسائلها المرسلة إليه عن طريق الخطأ كما يحدث مع رسائله إليها؟
أغرمت به.. وأصبحت أتخيله وأتخيل يوم لقائنا، سهوت أنها رسائلها وليست رسائلي، سهوت عن غير قصد أم يا تراني سهوت عمداً؟!
ظننت لبرهة من الزمن، إنني أنا محبوبته، نسجت خيالاتي عالم مستقبلي وهمي لقصة حبنا، كنت أتمنى أن أرسل إليه، لكن جميع رسائله لم تكن تحوي على عنوان.
أصبحت رسائله كالهواء الذي أتنفسه..
أصبحت أنتظرها بفارغ الصبر..
تغيرت أصبحت أجمل..أكثر أناقة، رفرفت محلقة بخيالي، ظننت أنه في يوم ما سوف يحضر بنفسه ليخبرني كل كلمات الحب التي حدثني بها في رسائله، أصبح حبيبي وأصبحت محبوبته، جرفتني أمواج الهيام بعيداً عن شاطئ الواقع، تخيلت أمورا عديدة وكثيرة، تخيلت أنني عروسته وأستقبله بفستاني الأبيض وعقد من الزهور أزين بها نحري، تصورته فارسي الذي سيأخذني لنرقص سوية على سطح القمر.
مع كل رسالة، كنت أزداد تعلقاً به، مع كل تنهيدة أسمعها بين أسطر كلماته، كنت أذوب صبابة فيه، كل يوم كنت أمنّي النفس بلقاء يجمعنا صدفة، مضت ستة أشهر وأنا في هواه متيمة، ستة أشهر والعم مصطفى يحمل لي مراسيل الحب والغرام من الحبيب المجهول الذي أتطلع للقائه بفارغ الصبر، كم أحببت العم مصطفى لهذا الخطأ الجميل الذي يرتكبه، هنالك أخطاء تزيد حياتنا رونقاً وبهجة، أخطاء نتمنى لو أنها حدثت لنا منذ مئات السنين.
كنت في بعض الأحيان أفكر كيف كانت حياتي قبل هذه الرسائل؟
كيف كنت قبل هذا الحب؟
كيف كنت أحيا بدونه؟
كنت أتمنى لو أنه يوقع في نهاية الرسالة باسمه، كان يكتفي بوضع أول حرف من اسمه (ف) ينقشه بخط جميل ومزخرف، بلون أحمر مميز يبرز بشكل جميل في ذيل الرسالة.
كان يخيل لي أنني أستمع إليه وأنا أقرأ كلماته، وكأنه ينظر لي بعينيه الحالمتين، يخيل لي أنني أشتم رائحة عطره في طيات الرسالة.
مر عام والرسائل لم تنقطع..
عام وأنا في سعادة غامرة..
عام لم أعد بعده كما كنت في السابق..
تغيرت كثيراً.. تغيرت للأفضل..
لقد غيرني حبه، أخرج مني إنسانة أخرى، إنسانة متلألئة قادمة من النجوم.
فجأة.. انقطعت رسائله، لم يعد يرسل كسابق عهده.
ما الأمر، ما الذي حدث؟
هل تلاشى ذلك الحب؟
هل علم أن رسائله كانت تضل طريقها إلىَّ؟
مضى شهر على آخر رسالة أرسلها..
شهر وأنا أتحرق شوقاً، شهر كامل أصبحت صديقة للسهر، كم هو مؤلم شعور الوله..
بحثت عن العم مصطفى لأسأله عن الرسائل الصفراء فلم أجده، حزنت جداً بعد أن علمت أن عم مصطفى قد توفي، رحمك الله يا صاحب أروع ابتسامة، رحمك الله يا صاحب أطيب قلب، رحمك الله يا من كانت أخطاؤك تنير لي حياتي وتجعلها أكثر بهجة، يا من جعلت الحب يتسلل إلى زوايا قلبي.
وانقطعت الرسائل لأن ساعي البريد الجديد لم يعد يحضرها لي، عادت الرسائل لتصل إلى محبوبته الحقيقية.
هل يا تراها مازالت تنتظره بعد كل هذا الوقت؟
أم أنها وجدت محبوباً غيره؟
وماذا عنّي!!
بنيت قصوراً وردية من الرمال وعشت فيها جنون الحب، والآن تحطمت قصوري مع هطول أمطار الحقيقة..
كيف سوف أواصل بقية حياتي بدون رسائله؟
كيف لي أن أعود لحياتي السابقة؟
كيف أتنفس بلا كلماته؟
مازال صدى صوته يتردد في أذني، رائحة عطره لا تزال عالقة في يدي..
كان وهماً.. كان حلماً جميلاً.. ليته لم ينتهِ.
copy short url   نسخ
15/09/2019
2699