+ A
A -
بقلم : علي حسين باكير مركز الجزيرة للدراسات
مضى عامان وستة أشهر تقريبًا على انطلاق الجولة الأولى من مسار أستانة بين المعارضة والنظام في سوريا، برعاية وضمانة كل من روسيا وتركيا وإيران. شهد المسار الذي تم تأسيسه من أجل إيجاد حل سياسي وإنهاء الصراع في سوريا، ثلاث عشرة جولةً من المحادثات حتى الآن، تخللها الكثير من اللقاءات والقليل من التقدم. على درب المسار، تم عقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، في يناير من العام 2018، كما تعهدت الدول الضامنة بضرورة التوصل إلى حل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 دون أن تحقق خرقًا كبيرًا في هذ المجال.
ومع ذلك، يرى البعض أن من أبرز منجزات هذا المسار التوصل إلى توافقات حول وقف إطلاق النار، وإنشاء مناطق خفض التصعيد، واتفاق إدلب، وإطلاق اللجنة الدستورية. وبالرغم من ذلك، يمكن وصف التقدم البطيء الذي حققه أستانة في هذا المجال بالمحدود، في ظل انتهاك النظام -وحلفائه- المستمر لاتفاقات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها، آخرها في إدلب، وذلك ضمن سياسة القضم والهضم التي يتبعها. علاوةً على ذلك، فشل المسار في تحقيق أي تقدم حقيقي في مسائل مهمة مثل الأسرى واللاجئين والنازحين، وتجنب الخوض كذلك تمامًا في قضايا الحل النهائي الأساسية كالانتقال السياسي ومصير الرئيس السوري بشار الأسد، وإعادة الإعمار.
وفي هذا الإطار، تبحث الورقة تداخل المحلي والإقليمي والدولي في مسار أستانة، بالإضافة إلى أجندات الدول المؤسِّسة لهذا المسار، لا سيما نقاط الاختلاف والتلاقي بينها فيه، والكيفية التي قامت من خلالها باستغلاله وتوظيفه لصالح أولوياتها وأجنداتها المختلفة، كما تبحث الورقة حدود المسار والعقبات التي تواجهه ودور الدول الذي تلعبه الدول الأخرى بشكل مكمِّل أو منافس لهذا المسار، وهل لا يزال يحمل الحل المرتقب للأزمة السورية.
ظروف إنشاء أستانة
مع اشتداد الحملة العسكرية لنظام الأسد وحلفائه على حلب في النصف الثاني من العام 2016، كانت الخطوط الحمراء لإدارة أوباما قد انهارت تمامًا وتم استبدال أضواء خضراء بها سمحت لروسيا بتنفيذ حملة عسكرية قائمة على سياسة الأرض المحروقة. أسهم تحول الإدارة الأميركية إلى وضعية البطة العرجاء في انحسار دورها وتأثيرها إلى أقصى درجة ممكنة في الساحة السورية، وتبع ذلك انحسار كبير للدور العربي، لا سيما ذلك المتمثل بدور المملكة العربية السعودية التي بدت غائبة عن المشهد تمامًا آنذاك بانتظار الرئيس الجديد في البيت الأبيض. وبسبب هذه المعطيات، فقد كانت تركيا قاب قوسين أو أدنى من الخروج من المشهد السوري تمامًا، بعد أن وجدت نفسها وحيدة في مواجهة روسيا وإيران اللتين أوشكتا على القضاء على ما تبقى من معارضة مسلحة هناك.
أمام هذا الواقع، اتجهت أنقرة في أواخر العام إياه (أي 2016) صوب موسكو لتبني على التطبيع الحديث للعلاقات بينهما، اتفاقًا لوقف إطلاق النار يحمي من بقي من المدنيين العزل وينقذ ما تبقى من معارضة مسلحة، ويتيح لأنقرة البقاء في رقعة الشطرنج السورية. تلقفت روسيا المبادرة على الفور؛ ذلك أنها كانت تبحث هي الأخرى عن وسيلة تتيح لها تقليل الاعتماد على آلتها العسكرية وتحويل «انتصاراتها العسكرية» إلى مكاسب سياسية. الاتفاق على وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا تم بوصف الأولى راعية وداعمة للمعارضة المسلحة وبوصف الثانية راعية وداعمة لنظام الأسد. هذه المعادلة تجاهلت بشكل تام ومتعمد اللاعب الأقوى على الساحة السورية آنذاك وهو إيران، ولما بدا ذلك محاولة لتهميش إيران، أوعزت إلى ميليشياتها وإلى الأسد بتعطيل الاتفاق التركي - الروسي. وبالفعل، جرت عدة عمليات لعرقلة تنفيذ الاتفاق وتعمدت الميليشيات الإيرانية إظهار ذلك بوضوح لإيصال رسالة مفادها أنه لا يمكن تهميش إيران ويجب أن تكون حاضرة في الاتفاق الثنائي. كانت إيران ترى أن الكفة تميل لصالحها وأنه من الممكن حسم المسألة عسكريًّا، ولكن عندما اتفقت أنقرة وموسكو على وقف إطلاق النار، شعرت إيران بأن هناك محاولة لعزلها، فحاولت عرقلة الاتفاق ووضعت شروطها الخاصة، وكانت قوتها على الأرض تسمح لها بالقيام بمثل هذا الأمر. على إثر ذلك، أدخلت تركيا وروسيا الجانب الإيراني في المعادلة، وحينها تقرر إنشاء منصة أستانة أو مسار أستانة، لتنطلق الجولة الأولى في يناير من العام 2017.
بالرغم من أن الأهداف الأساسية من تأسيس مسار أستانة كانت -ولا تزال- تتعلق بتثبيت وقف إطلاق النار وتحقيق تقدم في العملية السياسية باتجاه الحل السياسي المنشود بين المعارضة ونظام الأسد، إلا أن الدوافع الخاصة بكل دولة من الدول الثلاث (تركيا وروسيا وإيران) لم تكن واحدة أو موحدة. عندما اتفقت تركيا وروسيا على تأسيس المسار، كانت أنقرة تسعى من خلاله إلى وقف نزيفها في الأزمة السورية، والحد من خسائرها، والحيلولة دون انحلال ما تبقى من المعارضة السورية، والتموضع لمواجهة الأولويات والمخاطر الجديدة وعلى رأسها مشروع ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) الكردية الذي يهدف لاقتطاع الشمال السوري.
أما روسيا، فكانت تسعى لتعزيز سيطرة الأسد وبسط نفوذها في سوريا من خلال تثمير التقدم العسكري الذي حققته وتحويله إلى منجز سياسي، وهو ما كان يتطلب بالضرورة تواصلًا فعالًا مع تركيا بصفتها اللاعب القادر على التأثير في المعارضة السورية ولكونها بمنزلة مفتاح إطلاق المسار السياسي. إيران كانت لها حسابات أخرى؛ إذ كانت تخشى أن يتم تهميشها وإبعادها عن الاتفاقات السياسية بين الطرفين. علاوةً على ذلك، كانت تريد المحافظة على نفوذها ومنع تقدم الآخرين على حسابها، وتعزيز موقعها في سوريا في إطار الاستعداد لأي اشتباك محتمل مع إسرائيل وأميركا في مرحلة ما بعد القضاء على «تنظيم الدولة الإسلامية».
التباينات والتوافقات
المسؤولون الإيرانيون كانوا يريدون فصل مسار أستانة عن مخرجات جنيف، لأن ذلك يبدو منسجمًا بشكل أكبر مع توجهاتهم، فإيران لم توقِّع على مخرجات جنيف-1 ولا تريد أن تُلزم نفسها باتفاق لم تكن هي جزءًا منه أولًا، ومن شأن تطبيقه بشكل صحيح أن يقوِّض نوعًا ما من نفوذها في سوريا. في المقابل، كانت روسيا ترى ضرورة الاستفادة من مسار جنيف كي يعطي ذلك شرعية دولية أيضًا لمسار أستانة، فيما كانت تركيا تعتبر أن جنيف هو الأساس، وأن أستانة يجب أن يصب في نهاية المطاف في مسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة، لا سيما القرار 2254.
في هذا السياق، كان -ولا يزال- مسار أستانة ينطوي على تباينات وتوافقات بين هذه الدول المؤسِّسة له. في باب التباينات، يعتبر الموقف من دور الأسد في العملية السياسية المفترضة هو الأكبر، إذ إن الدول الثلاث استحدثت منصة أستانة وهي مختلفة على مصيره. ففي الوقت الذي عبَّر فيه الجانب الإيراني عن تمسكه بالأسد، كان الجانب التركي يرفض هذه الفكرة تمامًا، لكنه لم يكن يمتلك الأوراق التي تخوله فرض موقفه أو جعله أمرًا واقعًا بقدر ما كان يمتلك الأوراق التي بإمكانها أن تقوض من مسار إبقائه. وبين هذا وذاك، يحاول الجانب الروسي أن يُظهر دومًا أنه ليس متمسكًا بالأسد كشخص، وأن هدفه هو المحافظة على مؤسسات الدولة ومنع انهيارها التام، وفق المنطق الروسي، لكنه قدَّم -ولا يزال- للأسد كل الدعم اللازم لبقائه وتمكينه من الحكم. وإلى جانب هذا التباين، كان هناك تباينات أخرى من قبيل الآلية المناسبة لتمييز وفصل الجماعات المعتدلة عن المتطرفة والتسلسل الذي من المفترض أن تجري فيه الأمور للوصول إلى الحل السياسي المنشود (وفق القرار 2254، أي انتقال للسلطة وكتابة دستور وانتخابات).
في باب التوافقات، كان -ولا يزال- هناك توافق بين الدول الثلاث على أن تحقيق تقدم في مسار أستانة يرسل رسالة مفادها أنه باستطاعتها العمل سويًّا بالملف السوري بمعزل عن الدور الأميركي المباشر، إذ إن الفكرة التي كانت سائدة هي أنه باستطاعة هذه الدول أن تقرر وأن تصل إلى نتائج. وفي هذا الباب أيضًا، بدا أن هناك توافقًا حول تعريف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي «بي واي دي»، لكن هذا التوافق حمل في طياته تباينًا واضحًا، فتركيا تعتبر التنظيم فرعًا سوريًّا من تنظيم «حزب العمال الكردستاني» المصنَّف إرهابيًّا، ومنع تهديده للداخل التركي يعتبر أولوية. في المقابل، موسكو لا تصنف التنظيم رسميًّا على أنه تنظيم إرهابي وسبق لها أن استضافت مكتبًا تمثيليًّا له في موسكو، قبل أن تعود وتغلقه مع تحسن علاقاتها بتركيا، لكنها تسعى للإبقاء على علاقات قائمة مع التنظيم الكردي وإن بنسب متفاوتة لاستخدامه كورقة إنْ تطلَّب الأمر ذلك، أما إيران فقد أثبتت معركة عفرين أن لها علاقات معه بالرغم من إنكارها لمثل هذا الأمر.
بشكل عام، دفع مسار أستانة تركيا وروسيا وإيران إلى تبني توافقات عامة لجسر الهوة بين الأجندات المختلفة لكل منها قدر الإمكان، لكنها لم تلغِ الاختلافات القائمة بينهم. غياب الرؤية الواضحة لدى كل هذه الأطراف حول الآلية التي يجب اتباعها والكيفية التي يمكن من خلالها إنجاز الحل السياسي المنشود دفعها كذلك للعمل على نطاق تكتيكي، فأخذ كل طرف من هذه الأطراف يعمل على تعزيز موقعه في المعادلة مع البقاء تحت السياق العام لمسار أستانة.
ومن نتائج أستانة أن تركيا استطاعت حتى الآن تنفيذ عمليتين عسكريتين داخل الأراضي السورية، الأولى: هي عملية درع الفرات (2016-2017) شمال حلب، والثانية: هي عملية غصن الزيتون (2018) في عفرين، كما نشرت قوات لها في شمال إدلب بموجب اتفاق إدلب (2017) مع روسيا، محققةً بذلك جملة من الأهداف لعل أهمها تحرير مساحة من الأراضي شمال سوريا من قبضة حزب الاتحاد الديمقراطي، الأمر الذي مكَّنها من إعادة عدد من اللاجئين، وقطع الطريق أمام مشروع الحزب المتمثل بإقامة كيان له في الشمال السوري، ووضع موطئ قدم عسكري لها يخولها تعزيز موقعها التفاوضي في الملف السوري مستقبلًا من أجل تحقيق أولوياتها المتمثلة في إبعاد «الميليشيات الكردية» عن حدودها وإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم، والتوصل إلى حل سياسي يضمن الأمن والاستقرار لسوريا.
وبالنسبة لروسيا، فقد عززت من نفوذها داخل المؤسسات والأجهزة التابعة للنظام السوري، كما نجحت في زيادة نفوذها على الأسد، على حساب الجانب الإيراني، وحصلت على العديد من الامتيازات السياسية والاقتصادية في سوريا جرَّاء دفاعها عنه في المرحلة الماضية. وبهذا المعنى، سمح مسار أستانة لروسيا أن تتسود المشهد في سوريا بوصفها اللاعب الأكثر قدرة على التأثير على نظام الأسد والتواصل مع باقي الأطراف، لكنها لم تستطع حتى الآن أن تُنهي من تصفهم بالمجموعات «الإرهابية»، كما لم تستطع حتى الآن أن تفرض رؤيتها للحل السياسي أو أن تمنح نظام الأسد كامل السيطرة على سوريا أو أن تعيد تسويقه للمجتمع الدولي من بوابة أستانة باعتباره أمرًا واقعًا.
أما إيران، فبدا وكأن موقعها يتقهقر نوعًا ما مقارنة بما كان عليه في بداية إطلاق مسار أستانة بسبب عدة عوامل، لعل أبرزها: التقاطعات الروسية - الإسرائيلية، والروسية - الأميركية، والأميركية - الإسرائيلية، المتعلقة جميعًا بالحد من النفوذ الإيراني في سوريا، بالإضافة إلى حاجة روسيا إلى تركيا أكثر من حاجتها إلى إيران في المسار السياسي. وبهذا المعنى، لم يُتح مسار أستانة لإيران زيادة نفوذها بالشكل الذي أتاحه لروسيا وتركيا، وأخفقت بذلك في الحفاظ على تقدمها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حسابات طهران عادة ما تركز على المدى البعيد والنفس الطويل، لذلك فهي قد لا تكون مقيدة بالضرورة في نهاية المطاف بما يتم التوصل إليه لاحقًا. وفشلت طهران في القضاء على المعارضة المسلحة تمامًا كما كانت تريد، لكنها من خلال أستانة، أسقطت خيار إسقاط الأسد عسكريًّا، كما كسبت في تجاهل أستانا لوجود ميليشياتها المسلحة داخل سوريا، وفي بقاء الأسد في السلطة حتى الآن وربما لمرحلة لاحقًا أيضًا.
حدود مسار أستانة
لم يَحُل مسار أستانة في مرحلة لاحقة دون اشتداد التنافس بين الأطراف الراعية له في سوريا ولا دون بروز حالة من عدم التوافق وعدم الثقة المتبادلة أيضًا. هناك تنافس جلي بين روسيا وإيران لاحتكار التأثير على نظام الأسد، والحصول على مكاسب اقتصادية، وتعزيز النفوذ داخل المؤسسات العسكرية والأمنية. بلغ هذا التنافس بينهما أشده في العامين الماضيين بشكل واضح للعيان، كالاشتباكات المتكررة بين الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر الأسد، المدعومة من إيران والفيلق الخامس، بقيادة سهيل الحسن، والمدعوم من روسيا، إلى جانب التنافس على السيطرة على الموانئ السورية وقطاعات النفط والغاز والفوسفات والاتصالات والكهرباء والزراعة والسياحة والعقارات.
وهناك أيضًا حالة متزايدة من عدم التوافق بين تركيا وروسيا لا سيما فيما يتعلق بالوضع في إدلب، وبالرغم من أن موسكو تضع الأسد في الواجهة لتفادي خلاف تركي - روسي مباشر، إلا أنه لا يخفى أن روسيا تقف خلف الأسد في هجماته الأخيرة على إدلب وتسعى إلى تمكينه من السيطرة على كامل البلاد.
بالرغم من كل هذه التناقضات، بقي مسار أستانة قائمًا لأن الحاجة إليه لم تعد محض سورية - سورية كما كان يتم الترويج، إذ تحول إلى منصة للتباحث بين هذه الدول من جهة، وبين هذه الدول ودول إقليمية وقوى دولية من جهة أخرى، كما جرى توظيف مسار أستانة لتحقيق أهداف تخص أجندات الدول الضامنة المختلفة. الأتراك وظَّفوه لتعزيز دورهم في الملف السوري ولتحقيق توازن بين الدور الأميركي والدور الروسي، والإيرانيون وظفوه لتعزيز الجبهة المناوئة لأميركا في مواجهة الضغط الأميركي المتزايد على إيران. أما روسيا، فقد وظفته لتعزيز نفوذها في المنطقة إذ إنه زاد من أهميتها في نظر كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول العربية -لا سيما الخليجية منها- بوصفها الطرف الوحيد القادر على التواصل مع كل الأطراف في سوريا، وأكسبها ذلك أهمية سياسية أكبر، كما فتح لها فرصًا جديدة لتقوية علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع تركيا والدول الخليجية وإسرائيل.
بعد أكثر من عامين ونصف على إطلاق مسار أستانة، هناك تفاؤل بأن الانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية السورية - السورية وإفساح المجال أمامها لممارسة عملها هو خطوة حاسمة على طريق الحل السياسي المنشود في البلاد. يمكن أن توصف هذه الخطوة بالتقدم البطيء، لكن تجاوز هذا التفصيل للحديث عن التفاؤل بقرب الحل السياسي أمر ليس في محله، خاصة إذا ما أُخذ بعين الاعتبار أن الدول الضامنة لا تزال تتفادى الخوض الحقيقي في قضايا شائكة وعصيَّة على الحل وفق المعطيات الحالية، كالوضع في إدلب وملف اللاجئين والنازحين، علاوةً على قضايا الحل النهائي الأساسية، كالانتقال السياسي ومصير الرئيس الأسد. وإذا ما سلَّمنا جدلًا أن مسار أستانة سيتجاوز بعض أو كل هذه المصاعب خلال المرحلة المقبلة، فإنه لن يستطيع لوحده حل الأزمة السورية برمتها. وفي هذا المعطى بالتحديد، تُمسك الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون (الأوروبيون) بالأوراق الأخرى المكملة والضرورية للوصول إلى حل سياسي شامل للمسألة السورية، خاصة تلك المتعلقة بـ: التواجد العسكري الأميركي شمال، وشمال شرق، وجنوب شرق سوريا، فهي تمسك بآبار النفط التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (عمادها ميليشيات «بي واي دي» الكردية) بحماية أميركية، وورقة إعادة الإعمار، وورقة مصير الميليشيات الكردية.
وبهذا المعنى، من المهم بمكان الاعتراف بأن لمسار أستانة حدودًا، وغالبًا فإن الدول الضامنة قامت باستنزاف هذا المسار، لذلك تبحث عن حلول مكملة من خارجه وإن كان بعضها يدخل في إطار المساومات الثنائية أو متعددة الأطراف. ولهذا، نرى، على سبيل المثال، بموازاة المنصة الثلاثية: التركية - الروسية - الإيرانية، اجتماعات قمة ثنائية مكثفة بين تركيا وروسيا، واجتماعات تركية - أميركية تركز على الميليشيات الكردية (وحدات حماية الشعب)، واجتماعات روسية - إسرائيلية تركز على إيران وميليشياتها، بالإضافة إلى تجمعات أخرى بدأ إطلاقها حديثًا، منها:
1. اجتماع القمة الرباعي: التركي - الروسي - الألماني - الفرنسي، الذي تم إطلاقه بجهود تركية ليُناقش ملفات أمنية إقليمية على رأسها سوريا. عُقدت القمة الأولى في أكتوبر من العام الماضي (2018) في مدينة اسطنبول، ومن المنتظر أن تُعقد القمة الثانية في نفس المدينة في نهاية أغسطس أو بداية سبتمبر المقبل (2019). ومن الواضح أن إشراك الأوروبيين يهدف بشكل أساسي إلى إيجاد حلول فيما يتعلق بمسألة اللاجئين وإعادة الإعمار في سوريا.
2. الاجتماع الثلاثي: الروسي - الإسرائيلي - الأميركي، الذي تم إطلاقه برعاية إسرائيلية، ويضم مستشاري الأمن القومي للدول الثلاث المذكورة، ويبحث -وفق الجانب الروسي- عن سبل مشتركة جديدة لتسوية الأزمة في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط، دون أن يغيِّر الصيغة الموجودة حاليًّا، وهي مسار أستانة. ركز اللقاء على نهج مشترك أكثر فعالية إزاء إيران بهدف إخراجها من سوريا، علمًا بأن موسكو نفت أن تكون إيران الهدف أو أنها تعمل لإخراجها من سوريا.
الدول الأخرى والانتظار
عند خط النهاية
تمسك دول أخرى خارج إطار أستانة بأوراق مهمة تجعلها لاعبًا محوريًّا على رقعة الشطرنج السورية حتى وإن لم يكن تواجدها العسكري والسياسي على الأرض موازيًا للقوة الإيرانية والروسية والتركية. بعض هذه الدول يتدخل عسكريًّا بين الحين والآخر، كأميركا وإسرائيل، من أجل محاولة تعديل موازين القوى داخل سوريا، فيما يتابع البعض الآخر التطورات بحذر ويحاول أن يحجز دورًا له دون الكثير من الضوضاء، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وإن لم تقم كل هذه الدول بتخريب مسار أستانة فذلك، لأنها تعتقد أن الدول الضامنة ستلجأ عاجلًا أم آجلًا إلى التفاوض معها.
تقوم حسابات هؤلاء اللاعبين الأساسيين على فكرة أنه إذا فشل مسار أستانة في الوصول إلى حل، فإنها تكون قد استغلت الوقت في تعزيز دفاعاتها المتعلقة بالوضع السوري، وبتقوية أوراق التفاوض الموجودة لديها. أما إذا حقق المسار هدفه، فإنها ستكون بالانتظار عند خط النهاية للتفاوض على المسائل الأساسية. الأوروبيون -على سبيل المثال- مهتمون بمسألتي اللاجئين وإعادة الإعمار. ولأنهم المرشح الأكبر للمساهمة في إعادة الإعمار، فإنهم لن يخاطروا ويقوموا بمثل هذه المهمة دون التأكد أولًا من حصول تسوية سياسية قائمة على القرارات الدولية وقابلة للاستمرار بحيث تضمن الأمن والاستقرار بما يمكن معه عودة اللاجئين، وهو ما يجعل من إعادة الإعمار ورقة مهمة في يد الأوروبيين للضغط على نظام الأسد والداعمين له في مرحلة لاحقة.
وبالنسبة لواشنطن، التي تخلت عن الإطاحة بالنظام السوري منذ زمن، فإنها لا تمانع الآن من بقائه في السلطة، فمهمتها -وفق المسؤولين الأميركيين- ليست تغيير النظام وإنما حثه على تعديل سلوكه، أي ضرورة تخليه عن الجانب الإيراني والالتزام بالقرارات الدولية. تمتلك الولايات المتحدة ورقة تواجدها العسكري شرق وشمال شرق البلاد بالإضافة إلى تحالفها مع «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر من خلالها على أهم حقول النفط في سوريا، وعلى السلة الغذائية للبلاد التي تقع في تلك المناطق، ما يعني أنها تمسك عمليًّا بشريان حياة النظام وتريد له أن لا يكون بيد إيران في أية تسوية سياسية قادمة. وضمن المشهد السوري، لا تمانع واشنطن من التعاون مع موسكو؛ إذ تساعد العقوبات الأميركية على إيران -لا سيما بعد خروج واشنطن من الاتفاق النووي- في إعطاء روسيا اليد العليا في التأثير على الأسد، إلا أن تحالفها مع الميليشيات الكردية يتسبب بمشاكل جسيمة مع تركيا.
وفيما يتعلق بإسرائيل، يحظى موقف هذه الأخيرة من النظام السوري بأهمية خاصة لدى الغرب وروسيا على حد سواء، وقد أعلنت صراحة أن ليس لديها مشكلة في بقاء الأسد في السلطة ولا تعارض إعادة سيطرته على سوريا. وبخلاف القوى الأخرى، فهي لم تنتظر التطورات، وإنما بادرت إلى العمل على مواجهة نفوذ ووجود إيران العسكري في سوريا بكل السبل، ووجهت له مئات الضربات على مدى السنوات الماضية لمنعه من التضخم والاستقرار في البلاد. المفارقة أن ذلك ما كان ليتم لولا التفاهم القائم مع روسيا والذي يقتضي أن تغض الأخيرة الطرف؛ الأمر الذي يعمِّق كذلك من حالة عدم الثقة مع إيران.
أما التحرك العربي/‏ الخليجي في النقطة المتعلقة بالأسد تحديدًا، فيبدو ارتجاليًّا ولا يستند إلى أي حسابات استراتيجية. وبالرغم من أن مواقف بعض الدول قد تكون مفهومة (كمصر والإمارات) على اعتبار أن الدولتين لم تكونا بعيدتين عن دعم نظام الأسد بطريقة أو بأخرى طوال الثورة السورية، إلا أن الموقف السعودي شهد تحولًا كبيرًا في العامين الماضيين باتجاه دعم الأسد دون الحصول على مقابل، تارةً بشكل مباشر من خلال التصريحات، وطورًا بشكل مبطن من خلال عملية التطبيع الدبلوماسية والتجارية سواءً عبر البحرين أو عبر طرق أخرى. ولأن هذه الدول لا تتحرك بمعزل عن الولايات المتحدة، طُلِبَ منها دفع أموال يُعتقد أنها تذهب في نهاية المطاف لدعم تشكيلات قوات سوريا الديمقراطية وقوامها في الأساس ميليشيات كردية أسهم نظام الأسد الحالي ووالده، حافظ الأسد، في احتضانها، وتعمل حاليًّا ضد المصالح التركية. واستطاعت واشنطن كبح اندفاع هذه الأنظمة العربية للتطبيع الدبلوماسي مع نظام الأسد، وضغطت لمنع إعادته حاليًّا إلى الجامعة العربية بانتظار تبلور المزيد من المساومات المستقبلية مع موسكو وأنقرة.
خاتمة
بالرغم من تشكيل اللجنة الدستورية، إلا أن الطريق لا يزال طويلًا نحو التسوية والحل السياسي المنشود في سوريا، وهذا يعني أن مسار أستانة سيكون غير معبَّد ودون وصوله إلى هدفه عقبات جسيمة، منها ما يتعلق بالتناقص الكامن في أجندة الدول المؤسِّسة لهذا المسار، ومنها ما يتعلق بالوضع السوري، ومنها ما يتعلق بتوازنات القوى الإقليمية والدولية. آخذين بعين الاعتبار حدود ما يمكن لمسار أستانة إنجازه في نهاية المطاف، واستنفاذ الدول الضامنة له، من الصعب جدًّا القول إنه سيحمل معه الحل المنتظر في سوريا. واقع الحال يقول إنه ستكون هناك حاجة لجهود مكمِّلة، خاصة أن الدول الضامنة له لا تمتلك كل الأوراق التي تخوِّلها إيجاد أو فرض حل سياسي في سوريا. وحقيقة أن مسار أستانة ليس بديلًا عن أي من المسارات السابقة (كجنيف) أو ربما اللاحقة، فهذا يعني عقد المزيد من الاجتماعات والقمم الثنائية والثلاثية والرباعية المكملة له، أي إن باب المساومات سيبقى مفتوحًا على مصراعيه، وإن كان ذلك لا ينفي أيضًا، بقاء التناقضات والصراعات والاتفاقات التكتيكية قائمة بين الدول المؤسسة لهذا المسار من جهة، وبينها بين الدول الأخرى من جهة أخرى.
} د. علي حسين باكير، باحث
متخصص في العلاقات الدولية
copy short url   نسخ
23/08/2019
1288