+ A
A -
ما زالت الأزمة المالية التي تضرب السلطة الفلسطينية تستعصي على الحل، إذ تشير التصريحات الصادرة عن المسؤولين الفلسطينيين إلى أن السلطة أمام تحديات عصيبة بفعل تداعيات الأزمة المالية المتصاعدة. وفرضت الظروف المالية الصعبة التي تعيشها السلطة، على حكومة محمد أشتية، الاقتراض من البنوك، وتقليص رواتب الموظفين، حيث إنه منذ 4 شهور والسلطة الفلسطيـنية تدفـع مـن 50 % إلى 60 % من رواتب موظفيها التي تزيد على 2000 شيقل (550 دولار).
وتتعدد مسببات الأزمة المالية التي تعانيها السلطة الفلسطينية، لعل أبرزها الخطوات التي مارستها إدارة دونالد ترامب لوقف المساعدات والمشاريع الأميركية في الضفة الغربية، بهدف تمرير «صفقة القرن»، إضافة إلى القرار الإسرائيلي في فبراير الفائت، باقتطاع 138 مليون دولار من أموال المقاصة التي تعود للسلطة بادعاء أنها مقابل الرواتب التي صرفت لعائلات الأسرى والشهداء الفلسطينيين خلال العام 2018.
في المقابل، ردت السلطة الفلسطينية على الخطوة الإسرائيلية برفضها استلام أموال المقاصة التي تجبيها لها إسرائيل إلا كاملة.
وبحسب تقرير للبنك الدولي، فإن الأزمة المالية التي تعيشها السلطة الفلسطينية تهدد الاقتصاد الفلسطيني برمته، لا سيما أن تحويلات الضريبة التي تجبيها إسرائيل لصالح السلطة تبلغ 65 % من مجموع إيرادات السلطة الفلسطينية، وهي الأموال المحركة للدورة الاقتصادية الفلسطينية برمتها.
ارتباك فلسطيني
ويفيد مركز «رؤية» للتنمية السياسية بأن مصادقة الحكومة الإسرائيلية على القانون وإنفاذه عمليا، بدا وكأنه فاجأ السلطة الفلسطينية، التي أخذت تتحدث عن إجراءاتها إزاء القانون متأخرة، أي بعدما صار في حيز التنفيذ العملي.
ويوضح أن الإجراء الأساسي الذي عالجت به السلطة الفلسطينية القانون الإسرائيلي، هو دفعها مخصصات الأسرى والشهداء كاملة مما يتوفر لديها من موارد، مع رفضها استلام أموال الضرائب ناقصة، أي أنها اشترطت لاستلامها أن تكون كاملة دون أي خصم منها، الأمر الذي أوقع بدوره السلطة في أزمة مالية، إذ قالت إن مواردها غير كافية لدفع رواتب الموظفين كاملة، فالتزمت بدفع يتراوح بين 50 % - 60 % من قيمة الرواتب.
وأوضح التقرير أن تعامل السلطة مع الأزمة أظهر ارتباكا واضحا، فقد تأخرت في اتخاذ القرارات بخصوص صرف الرواتب. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة الفلسطينية عن سلسلة أخرى من التوقعات والإجراءات للأزمة المالية التي تمر بها، منها التعويل على تجاوز الأزمة بعد نمو إيرادات الحكومة عبر المنح والمساعدات الدولية والعربية، أو انتهاء أزمة المقاصة بتراجع الحكومة الإسرائيلية عن إجرائها، وأشار التقرير إلى أنه بالإضافة إلى أزمة أموال المقاصة، فإن المنح الدولية تراجعت بمقدار 71 %.
إجراءات تقشفية
وإجرائيا، تلجأ السلطة الفلسطينية للاقتراض من البنوك لتوفير النسبة التي تدفعها لموظفيها، معولة على استقطاب ودائع جديدة للبنوك الفلسطينية من الخارج بما يساعد على رفع سقف التسهيلات المقدمة من البنوك للحكومة، التي تلتزم بسقف محدد يضمن التوازن بين الاقتراض والاستقرار المالي للبنوك، كما وقعت حكومة محمد اشتية اتفاقا مع عدد من رجال الأعمال الفلسطينيين لإقراضها مبلغ 150 مليون دولار مقسمة على ثلاثة شهور تبدأ من شهر يوليو بفائدة تبلغ 3 %، بيد أن مبادرة رجال الأعمال لا تزال في حكم المجهول، لا سيما بعد تصريحات وزير الاقتصاد الفلسطيني خالد العسيلي، التي قال فيها إن القرض تراجع من 150 مليون دولار إلى 50 مليون دولار.
وفي إطار توفير النفقات، أعلنت الحكومة الفلسطينية عن سلسلة إجراءات تقشفية لمواجهة الأزمة المالية، منها عدم شراء مركبات جديدة للوزراء، والاكتفاء باستعمال المركبات القديمة، ووقف السفر على الدرجة الأولى لجميع الوزراء، وإقرار الذمم المالية للوزراء.
وكانت حكومة الحمد الله قد أعلنت من قبل عن إجراءات تقشفية كذلك منذ مطلع العام 2019، وإن كانت إعلانات التقشف لا تحظى بالثقة الكافية، لا سيما بعد تسريب وثائق رسمية تكشف رفع حكومة الحمد الله رواتب وزرائها، وهو ما استدعى إدانة الأمم المتحدة على لسان نيكولاي ملادينوف، مبعوث الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط.
ويؤكد التقرير أن السلطة التنفيذية تتفرد في معالجة أزمة تهدد وجود السلطة، وبالتالي دخول المجتمع الفلسطيني برمته في الفوضى، حيث إن الإشكال الجوهري هنا يكمن في انعدام رقابة أي سلطة أخرى على ميزانية السلطة الفلسطينية، ومخزونها النقدي، فالمجلس التشريعي الذي عطل لفترة طويلة حل في نهاية المطاف بغطاء قانوني، كما حل الرئيس عباس أخيرا مجلس القضاء الأعلى وعين بدلا منه مجلسا انتقاليا.
وفي إطار الحديث عن الشفافية فيما يتعلق بإدارة الأزمة المالية، أعلن وزير المالية شكري بشارة، في يونيو، إلغاء الشريحة الضريبية الأعلى، ما يعني خسارة خزينة السلطة الفلسطينية لعشرات ملايين الشواقل سنويا، بالإضافة إلى إدارة سياسة مالية منحازة للأغنياء، في حين يدفع ثمن قوانين الاحتلال وقراراته صغار موظفي السلطة الفلسطينية.
ويلفت التقرير إلى أن قدرة المواطنين على الاحتمال تتراجع كما تظهر تعليقات العديد من المواطنين، ولا تقتصر المعاناة على الموظفين وإنما على مجمل الفعaاليات الاقتصادية والتي تراجعت بشكل حاد، وبنسب تفوق 70 % كما يفيد العديد من أصحاب المصالح الخاصة.
وقال إن الأزمة المالية عملت على إغراق المجتمع الفلسطيني بنمط استهلاكي لا يناسب ظروفه الخاضعة للاحتلال، إذ بلغ إجمال الإنفاق الاستهلاكي النهائي 16.94 مليار دولار بنسبة بلغت 116 % من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018، مما يضعف من قدرة المجتمع في الضفة الغربية على تحمل تبعات الأزمة المالية. وفي هذا الصدد وحيث تبرز إشكالية شيوع اقتراض المواطنين من البنوك، فقد أصدرت سلطة النقد تعميما للبنوك ومؤسسات الإقراض يقضي بـ «خصم قيمة القسط المستحق على المقترضين من موظفي القطاع العام كنسبة وتناسب من قيمة الراتب المحول إلى حساباتهم، بحيث لا تزيد نسبة الخصم على الموظف المقترض والمقترضين بكفالته من المصارف ومؤسسات الاقراض المتخصصة عن 50 % من قيمة الدفعة المحولة من راتبه».
انهيار السلطة
وأشار تقرير «رؤية» إلى أنه ظهرت إلى السطح وساطات متعددة لحل الأزمة، كتعويض خصم المقاصة من ضريبة «البلو» (أي ضريبة المحروقات)، بالإضافة إلى مقترحات دولية تحدث عنها وزير الاقتصاد الفلسطيني خالد العسيلي، تتلخص في اعتبار ما اقتطعته إسرائيل جزءا من مقابل مالي تتقاضاه إسرائيل بدل جبايتها لأموال المقاصة، أو تحمل دول عربية الفرق الناجم عن الاقتطاع الإسرائيلي، أو تحويل مخصصات الأسرى والشهداء إلى وزارة التنمية الاجتماعية لتصرف كمخصصات اجتماعية، بالإضافة إلى عرض من رئيس جهاز «الشاباك» الإسرائيلي بأن تحول أموال المقاصة لطرف ثالث يحولها بدوره للسلطة، وهو ما رفضته قيادة السلطة.
ويشدد التقرير على أن تعويل السلطة على تحول ما في الموقف الإسرائيلي أو زيادة ثابتة في المنح الدولية، بمثابة تأجيل للانفجار، كما أنه لا بد من أخذ مواقف اليمين الإسرائيلي الراهن من السلطة بصفتها ممثلا سياسيا للفلسطينيين بعين الاعتبار، فهو موقف يميل إلى إضعاف السلطة وإحلال الإدارة المدنية مكانها بالتدريج.
وينبه التقرير إلى أن احتمال انهيار السلطة لم يعد خارج حسابات المؤسسة السياسية الإسرائيلية، وهو ما يحذر منه رئيس الوزراء محمد اشتية، على الأقل في توسيع دور الإدارة المدنية على حساب السلطة، كما أن المزايدات الحزبية الإسرائيلية لا تزال تطالب بخصم المزيد من أموال المقاصة على اعتبار أن الحكومة الإسرائيلية لا تنفذ قانون الخصم بحذافيره، بالإضافة إلى أن حلول الاكتفاء الذاتي وفك الارتباط الاقتصادي بالاحتلال، على أهميتها، حلول بعيدة الأمد على فرض إمكانها، ولا تعالج المجريات القائمة.
copy short url   نسخ
20/08/2019
1769