+ A
A -
بقلم : إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
لم تكن هذه المرة الأولى التي أسافر بها في القطار وحدي، اخترت الجلوس بالقرب من النافذة واصطحبت معي رواية قديمة جداً كنت أنتظر الوقت المناسب لقراءتها. وبينما كنت في الصفحات الأولى من روايتي مستمتعة بها أغوص في خيالات الكاتب التي أبدع في سردها لنا، إذ بطفلة لا تتجاوز العاشرة من العمر تتقدم لتجلس على المقعد بجواري بخجل واستحياء، حانت مني التفاتة سريعة لها فجمد بصري لشدة جمالها ورقتها، طفلة من فرط جمالها تحسبها قد استحوذت على الحسن كله، رقيقة كأنها قطرة من الندى على غصن تمايله نسمات الصباح الباردة، خارقة الجمال يحسبها من يراها أنها خيال لفرط روعتها وبهائها، ابتسمت لها بتلقائية خجلت مني وطأطأت رأسها وعلى شفتيها ابتسامة تحاول أن تخفيها بأناملها الغضة.
عدت إلى روايتي أقرأها وأبحر بين سطورها، لكن الطفلة الجميلة أبت إلا أن تستحوذ على انتباهي، وجدتها تضع كف يدها الصغيرة على الكتاب تحاول أن تشد انتباهي، تجاهلت تصرفها وظللت أقرأ، عادت لتضع يدها على كتفي وتضغط بأصابعها بخفة، أحسست وكأنها تقول لي أنا هنا.. أرغب في أن أحادثك، لم أعرها انتباهاً، لكن هذه الحسناء شديدة الإصرار دست يدها في كف يدي، تساءلت في نفسي ما الذي تريدينه مني يا حسنائي الصغيرة؟
ما الذي صنعته فاستحوذ على اهتمامك؟
هل هو كتابي القديم الذي أحمله في يدي؟
أم إنها قبعتي التي أرتديها بأناقة؟
أم يا تراه فستاني الأسود الذي يبرز طول قامتي وضخامتي المفرطة؟
التفت نحوها مرة أخرى وأنا أحتضنها بابتسامة واسعة، قهقهت بصوت منخفض وقالت لي هل تسمحين لي أن أقرأ معك في كتابك؟ تعجبت من طلبها لكنني لم أستطع الرفض لأدبها وذوقها في الطلب، وضعت الكتاب بيننا وشاركتني القراءة، وشاركتني رحلة القطار.
تحدثنا وقرأنا كثيراً، كانت شريكتي الحسناء في الرحلة امرأة ناضجة العقل في جسد طفلة يانعة أحببتها وأعجبني أسلوبها في الحوار، لم أكن أتوقع أن تتمكن هذه الفتاة من أن تفتح لي رؤية جديدة في روايتي التي أقرأها، بل إنها فتحت لي نافذة جديدة أرى منها هذا العالم، جعلتني أحلق في خيالات لم تكن لتشرع لي أبوابها لولا هذه الفتاة التي أصبحت لي كالبلورة السحرية التي جعلتني أرى أمور لم أكن أراها في هذا العالم الواقعي الخيالي.
حديثها عذب كماء المطر، وكلماتها حلوة كقطع السكر، كانت الساعات تمر بنا سريعاً كأنها دقائق، هذه الصغيرة سرقت لب عقلي واستحوذت على تفكيري، كيف لطفلة بمثل عمرها أن تكون بهذا السحر والجمال وبهذا الذكاء المتقد واللسان العذب، تأملتها وهي مسترسلة في تحليل جزء من الرواية، لا أعلم لم شعرت حينها بإنها كغيمة مملؤة بالمطر، عيناها تلمعان بشدة وابتسامتها تأسر القلب، تتحدث بحروف لها وقع مميز في الأذن، تتحدث وتتحدث وأنا أتوه في روعة حديثها ووصفها، تحدثنا في كل شيء تقريباً.
اقترب القطار من الوصول إلى مدينتي وكنت أتمنى أن يطول بنا الطريق أكثر، فهذه الطفلة أسرتني وعرفت كيف تتسلل برشاقة إلى قلبي، أنهينا الكتاب قُبيل توقف القطار بدقائق قليلة، شعرت ببعض الحزن لأنني سأفارق صديقتي الصغيرة، وكأنها قرأت ما يدور في عقلي، وجدتها تبتسم وتقبل جبيني وتودعني قائلة: أعدكِ بأننا سنلتقي ثانية في قطار آخر ورحلة مختلفة لكن الآن حان وقت رحيلي، ثم مضت راحلة عني، حملت حقيبتي وكتابي ومضيت أبحث عنها في القطار أردت أن أسئلها عن اسمها ومدينتها لكنني لم أجدها، بحثت مطولاً وسئلت ركاب القطار عنها لكن أحداً ما لم يرها.
توقف القطار ونزلت في محطتي فيشاء الله أن أجدها تجلس في المحطة وبجوارها امرأة مسنة يظهر عليها آثار تعب السفر، اقتربت منها وحييتها ثم قلت لها: هنيئاً لكِ هذه الطفلة الرائعة لقد كانت خير رفيقة حظيت بها للسفر حديثها عذب لا يمل، فإذا بها تنظر لي بعين تملؤها الدهشة والتعجب وتقول لي: إن حفيدتي هذه منذ أن ولدت وهي بكماء لا تستطيع الكلام مطلقاً!! أطرقت في ذهول وسرت مبتعدة مخلفة ورائي طفلة مذهلة، تاركة بلورتي السحرية التي كشفت لي عوالم جديدة، وتربعت في عرش قلبي وعقلي.
copy short url   نسخ
19/08/2019
3437