+ A
A -
جمال الهواري كاتب وصحفي مصري
تمكن الجماعة من الفوز كان بمثابة المؤشر بأنه قد حان الوقت المناسب للقضاء على الجماعة بشقيها السياسي والدعوي بصفة نهائية، أو إنهاكها وإجبارها على الانكفاء على نفسها لفترة طويلة في أقل التقديرات لتقوم بتضميد جراحها واستعادة تماسكها ولمّ شتاتها.
مصر قبل المجزرتين كانت ساحة خلاف سياسي وشد جذب بين سلطة شرعية منتخبة وأحزاب وفصائل سياسية معارضة في مناخ ديمقراطي وسقف إعلامي مفتوح بدون خطوط حمراء لم يسبق له مثيل بشهادة المعارضين أنفسهم، لتتحول بعد المجزرة إلى ساحة اقتتال واستئصال سياسي وانشقاق مجتمعي مصبوغ بصبغة الدماء المحرمة التي أريقت وما تزال في نهر من الكراهية والاستقطاب، والذي يحرص السيسي ونظامه على جريانه ليبني على ضفافه أركان مشروعه الرامي لإفراغ مصر من كل مضمون لمصطلح الدولة، وتحويلها لإقطاعية خاصة يتصرف فيها كيفما شاء ويتنازل عن أراضيها ومقدراتها القطعة تلو الأخرى وفاء لديونه نحو من دعموه وأوصلوه لكرسي الحكم على أشلاء المصريين ودمائهم، فقد ولى زمن تلقي الدعم بدون حساب وحان وقت القبض ودفع الثمن.
مجزرتا «رابعة» و«النهضة» ودماء شهدائهما كانتا بمثابة رسالة من النظام العسكري المصري وبإيعاز من داعميه لشعوب المنطقة والمراقبة باهتمام لما يحدث في مصر «قاطرة الأمة العربية»، بأنه لا فرق بين أن تعارض بصوتك سلمياً أو ترفع في وجه النظام سلاحك، ففي كلتا الحالتين سيتم سحقك وقتلك بلا رحمة وبلا هوادة، مصر قبل المجزرتين وقبل 3 يوليو كان شعبها ينظر للمستقبل بشيء من الأمل رغم صعوبة الواقع، ويحلم بغدٍ أفضل يتمتع فيه المصريين بحقهم بالعيش الكريم وتتحقق فيه مطالب ثورة يناير «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، لتتحول بعد المجزرتين إلى شبه دولة تتشح بالسواد الممزوج برائحة الدم ويرزح مواطنوها تحت عبء ثقيل من القهر واليأس والعجز وتتردد في جنباتها أنات المغيبين خلف قضبان المعتقلات لتختلط بصراخ الثكالى من أهالي الشهداء ومن يلقون حتفهم يومياً بطرق الموت المختلفة والتي تلاحق المصريين أينما كانوا بفضل فساد منظومة العسكر، لتمتزج معها زفرات الألم والحسرة لمن اضطروا للهرب والنجاة خارج البلدة الظالم حكامها وتتعالي فيها صرخات المصريين من هول ما يرونه من تفاقم للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وارتفاع جنوني للأسعار في غياب تام لأي رؤية أو استراتيجية تنم عن أي تحسن أو انفراجة للوضع القائم والقاتم.
مجزرتا «رابعة» و«النهضة» كانتا الشرارة الكبرى والإيذان بالبدء
في المعركة الأخيرة للنظام العسكري التي لو خسرها لن تقوم له قائمة بعدها، واللتان حتمتا عليه الخروج من خلف الستارة ونزع القناع، كاشفاً عن الوجه الحقيقي، والذي أخفاه طويلاً مستتراً بمندوب عنه في قصر الاتحادية يدير شبكة من خدم للسلطة في كافة مؤسسات الدولة وقطاعاتها، ولكن هذه المرة بقواعد مختلفة، القتل والتغييب وإخراس المعارضين بشتى الطرق أهم اسلحتها وتفتيت وتشويه وهدم مؤسسات الدولة ونسف ثقة المصريين فيها أهم أهدافها، وإغراق مصر بالديون والتنازل عن مقدراتها وثرواتها، وتقسيم الشعب المصري إلى طبقات وطوائف مختلفة ومتمايزة كلياً ضمن كانتونات وجزر منعزلة أهم استراتيجياتها.
مجزرتا «رابعة» و«النهضة» كانتا الحقيقة الكاشفة والحد الفاصل الذي فضح وبشكل واضح ولا يقبل الشك كل المتآمرين على الثورة المصرية داخلياً وخارجياً وأحرق ورقة التوت التي كان يتغطى بها الكثيرون من أنظمة وأحزاب ونخب تدعي التحضر والتمدن وتتشدق زوراً بالديمقراطية والحقوق والحريات، رابعة والنهضة وضعتا مقياساً جديداً وخاصاً بهما وحدهما هو مقياس «الإنسانية»، تخسر الشعوب أحياناً جولات أمام الطغاة، لكن أثبت التاريخ دوماً أنه في النهاية لا بد للشعوب أن تنتصر، لو اتعظت واستخلصت الدروس والعبر من أخطائها.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
17/08/2019
786