+ A
A -
ممدوح الشيخ كاتب وباحث مصري
كنا نشكو، والشكوى مستمرة ومستحقة، من غياب الوثيقة والإفراط في الاعتماد على المذكرات الشخصية، فإذا بنا نواجه أيضاً مشكلة ندرة المذكرات الشخصية، ولذا بإمكانك، بعد إغلاق قوس الأسماء مباشرة، طرح السؤال: ماذا يبقى من السياسة عندما نكره الحقيقة ونغيِّب الوثيقة؟
سؤال تفرضه البنى السياسية السائدة عربياً، والنظم القانونية الحاكمة لتداول الحقائق والوثائق، بالقدر نفسه الذي تفرضه به السمة الغالبة على قسم كبير من «الوجدان السياسي العربي». وأحاول في هذا التعبير وصف جانب نفسي/‏‏ أخلاقي من الطريقة التي نتفاعل بها، أفراداً وجماعات، مع الواقع السياسي. وبحسب اجتهادات حديثة نسبياً في العلوم الإنسانية، يعيش الإنسان في مناخ عام يسمى «البيئة الأخلاقية»، وهو مفهوم يبدأ من الفردي والإنساني. وبحسب الباحث الأميركي أستاذ الأخلاق في المعهد الأميركي للمشاريع الاستراتيجية في واشنطن، مايكل نوفاك، فإن البشر قادرون على المراجعة والوصول إلى الخيارات، لكنهم يحتاجون لرياضة أنفسهم مدى الحياة سعياً إلى تطوير عادات التوازن والاتزان والشجاعة والتواضع.
والفضائل الأخرى التي تمكّنهم من الوصول إلى أحكامٍ هادئةٍ وجماعية، والثبات من وراء تلك القرارات في الظروف الصعبة وتحت النار. وممارسة الحرية مَحْميةٌ بحارسٍ أمينٍ متمثّل في العادات السليمة، ومعظم الناس قادرون على ممارسة هذا الانضباط، ولكنْ عندما يكون المجتمع المحيط مُساعداً لهم في القيام بتلك المهمة الصعبة. و«ثقافةً أمنيةً ومحبةً للحقيقة ومستقيمة تجعل من السهل على المرء أن ينضج باعتباره كائناً أخلاقياً».
الثقافة المحبة للحقيقة، إذن، وفقاً لهذا المفهوم، شرط موضوعي لأن يتسم الفرد والجماعة معاً بقدرٍ كافٍ من السواء. و«الحقيقة» في الواقع السياسي تتوزع بين الخطاب السياسي في الوسائل الرسمية وغير الرسمية من جانب، والوثائق الرسمية من جانب آخر. وفي العالم العربي، كله تقريباً، يتعثر الإنسان في أخاديد عميقة من ثقافة الكذب السياسي المتفشّية حد الوباء. ويتمثل الجناح الثاني للخيبة في حالة إنكار للواقع تجعل الأسباب، وما يفترض أن يترتب عليها من نتائج، كل منهما في وادٍ، وكأنهما غير مرتبطين البتة!
والثقافة العامة الكارهة للحقيقة لا تنفصل عن جملة من القضايا المؤسّسة، في مقدمتها، رؤية الفرد والمجموع معاً لـ «الذات» و«الآخر». وعلى سبيل المثال، تنجب المجتمعات المغرقة في الاعتداد بالذات الجماعية أفراداً عاجزين عن رؤية نقائص الجماعة التي ينتمون إليها: وصولاً إلى الجماعة الوطنية، ما يجعلهم، في النهاية، يرفضون النقد الموجه لها، مصرّين على الاستماع فقط لما يحبون سماعه، وهذا من أعراض «كراهية الحقيقة».
ويمثل ملف الإرهاب في المنطقة العربية نموذجاً معبراً عن الكارثتين معاً: «كراهية الحقيقة» و«غياب الوثيقة»، فبينما انخرطت وسائل إعلام عربية عديدة بناء على حسابات غير مهنية وغير أمينة في تأكيد أن تفجيرات عيد الفصح الدامية في سريلانكا (إبريل 2019) عمل نفذه تنظيم إسلامي.
{ عن "العربي الجديد"
copy short url   نسخ
14/08/2019
324