+ A
A -
صدر حديثاً عن «المكتب الإسلامي» في بيروت كتاب «كيف نتعامل مع القرآن» للمفكر عمر عبيد حسنه، في طبعته الشرعية الرابعة.
والكتاب (258 صفحة من الحجم الكبير) هو ثمرة مدارسة في كتاب الله مع الشيخ الجليل محمد الغزالي رحمه الله تعالى، أقرب للمفاكرة والمحاورة وتبادل الرأي والتأملات بل والخواطر والنظر الآني والمتأني، ومن ثمّ فهي لا تمثل كتاباً يمتلك مواصفات الكتاب المدرسي، ولا عملاً أكاديمياً خاضعاً للقوالب والأعراف والمعايير والقيود الأكاديمية، ولا عملاً علمياً بالمعنى الفني والاصطلاحي المتعارف عليه للأعمال العلمية، وليس تفسيراً لكتاب الله ولا شرحاً لمفرداته وبياناً لمقاصده وتكاليفه، ولا محاكاة لإعجازه وتقريراً لعلومه، وإنما هو عمل معرفي ومساجلات فكرية مترسلة وتأملات منطلقة من كل قيد.
كانت ولادته وإشراقاته وإلهاماته في شهر رمضان عام 1409هـ، ليأتي كخلاصة لعدة جلسات مختلفة. وقد اضطلع بطبعته الأولى ونشره «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» في واشنطن، وكان له الفضل الكبير، إضافة إلى ذلك، في خدمة الكتاب، من حيث توثيق مسائله وتخريج أحاديثه.
وبعد انتهاء حق المعهد في الطباعة والنشر، مُنح الحق إلى «المكتب الإسلامي»، فكانت الطبعة الثانية، وجاءت الثالثة ضمن مجلدات «الأعمال الفكرية الكاملة»، التي صدرت للأستاذ حسنه عن «المكتب» عام 2011م.
ولقد كتب الله للكتاب قبولاً كبيراً لدى المثقفين والمفكرين في الساحة الإسلامية، الأمر الذي جعل بعض دور النشر التجارية، في أكثر من بلد عربي مسلم، تمنح نفسها الحق في طباعة ونشر الكتاب عشرات المرات وتوزيعه دون استئذان أو حتى مجرد إشارة إلى صاحب الحق، ووظفت العمل لأغراضها التجارية، على الرغم من أن الطبعة الأولى من الكتاب حملت في صفحاتها الأولى وثيقة بخط الشيخ الغزالي تبين أن الأستاذ عمر هو صاحب الحق حصراً في نشر الكتاب.
وعلى الرغم من مضي ثلاثة عقود من الزمان على «المدارسة»، إلا أن طروحاتها لا تزال تحتل مساحة مقدورة في الساحة الثقافية، وتجد مزيداً من الاهتمام من القراء والباحثين والمفكرين.
وبعد صدور الطبعة الثانية، كان الأستاذ عمر يأمل في أن تُتاح له فرصة للتأمل والنظر والمراجعة وإعادة الترتيب وتصنيف القضايا الواردة في الكتاب، غير أنه وبعد التفكير في الموضوع والتدبر وتقليب الأمور على عدة وجوه، انتهى إلى أن قيمة العمل أن يبقى على الشكل نفسه، الذي جرى عليه مع فضيلة الشيخ الغزالي، وأن تبقى الأمور المطروحة على ترسلها، الذي هو أقرب بطبيعته للمدارسة والمفاكرة والحوار، ويرى في ذلك محاكاة لنسق الخطاب القرآني، في سياقه وعرضه المتنوع وتيسيره للذكر، مؤكداً أن قيمة العمل تبقى في استمراره والحفاظ على شكله وتاريخه وظرفه وطبيعة المرحلة التي وُلد فيها، وهو بذلك يشكل مرحلة في تطور التفكير والعمر العقلي.
وتشكل «المدارسة»، كما يصفها صاحبها، نوافذ للإطلالة منها على كتاب الله، وزوايا إضافية للنظر، ومحركات للتفكير، وفتحاً لأبواب التدبر والعودة للقرآن برؤى وأدوات جديدة، ومحاولة لتحقيق خلود القرآن في واقع الحياة، ومعالجة لحالة الهجر التي تعاني منها الأمة، وأنها تصويب لكيفية التعامل مع القرآن، واستدعاء للقرآن من المقابر والجنائز والزوايا والتكايا المهملة والمتاحف والخزائن المزخرفة، إلى العودة به إلى الحياة، ومدّ الجسور للعودة بالحياة إلى القرآن.
ومن ثم فهي محاولة لكسر بعض الأقفال من على القلوب، وفتح المغاليق، ومعالجة القطيعة، واستئناف التدبر، الذي يشكل المحور، الذي ترتكز عليه كيفية التعامل مع القرآن، فهو يورث صاحبه الحكمة، وحسن التدبير للأمور، والتبصر، والإحاطة، وإدراك العواقب، التي تخلف المقدمات، والاعتبار بالتاريخ وماضي الأمة وما لحق بها، بحيث يمكِّن من العبور للمستقبل بأمان وسلام، كما يمنح صاحبه البصيرة، التي تمكنّه من حسن التقدير، ووضع الأمور في مواضعها، وزينها بموازينها. والقرآن كما تراه «المدارسة» اكتشافٌ للسنن والقوانين، التي تحكم الحياة والأحياء، وإمكانية تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر، وهو النظر المفتوح صوب الآفاق جميعاً، وهو اكتشاف البوصلة التي تحدد الوجهة، والمفتاح الذي يؤذن بالولوج إلى استيعاب الحياة بشكل صحيح ومتوازن، وهو التفكر والنظر، لاكتشاف علاج واقعنا في القرآن، والإجابة عن إشكالاته، وهو التأمل والنظر والمقاربة والمقارنة بين الأشباه والنظائر، وهو السبيل للنقلة الثقافية واسترداد الفاعلية.
وتمتد تأملات صاحب «المدارسة» في أبعاد كتاب الله، حتى يصل إلى أن القرآن هو القراءة الدقيقة لأدبار الحوادث ونتائجها وماضي الأمم، ومجريات الأمور، والوقوف على عواقبها، لتشكل الهداية للمسيرة الآمنة، ويصبح القرآن مصدر انطلاق، ومصدر رؤية، ومصدر خبرة، ومصدر معرفة، ومصدراً لبناء «الشاكلة الثقافية»، وأن يصبح هو الفقه بكيفية تنزيل القيم الضابطة للحياة على مسيرة الحياة، في ضوء رؤية دقيقة وبصيرة نافذة لمدى الاستطاعة، وفقه المحل، والقيم الملائمة للتنزيل على الواقع، في ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة.
وقد كتب الأستاذ حسنه للطبعة الرابعة مقدمة ضافية تركزت بشكل رئيس حول التدبر ومعانيه وأبعاده وثمراته، ونعى على بعض الفهوم الساذجة والبائسة لعملية التدبر، التي توهمت أن التدبر عملية تقتصر على النظر في لغة القرآن، والنظر في النظم والسياق، والإتيان بأمثلة لا تحرك ساكناً في الواقع، وطرح أسئلة بعيدة عن المساهمة بمعاودة إخراج إنسان القرآن، والاشتغال عن ذلك بتقديم كلمة وتأخير أخرى، وتقديم ذلك بعبارات مغلقة معقدة، وقد يسر الله القرآن للذكر!!
ودعا إلى أهمية انصراف معظم الجهود إلى كيفية إعمال النص في حياة الناس وتجسير التعامل معه، مشيراً إلى أن الإشكالية الأساس في كيفية التعامل مع القرآن اليوم، قد تكون في أن القرآن في عصر النبوة تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم نُزلاً بعد نُزل، مفرَّقاً منجَّماً حسب الوقائع والظروف، التي يمر بها المجتمع، والإجابة عن أسئلة الإنسان في كل ظرف وحال يعاني منه. أما اليوم، «فالقرآن بين أيدينا، أصبح جملة واحدة، فيه كل الإجابات لكل الظروف والأحوال، فهو أشبه بمخزن الدواء والصيدلية الجامعة لأدوية كل الأدواء، فكيف نبصر حالنا، ونقدر استطاعتنا، ونشخّص عللنا، ونحدد الموقع الذي فيه العلاج ومحل الاقتداء، ونستدعي النص القرآني الموافق لحالنا، ومدى استطاعتنا، في هذه المرحلة»؟
وخلص الأستاذ حسنه في نظراته حول أبعاد التدبر إلى أن التدبر يعني -فيما يعني- إعمال النص في حياة الناس، وبيان كيفية التعامل مع القرآن، وأن الحفظ والنقل والاستظهار من لوازم ومن وسائل التدبر، وأن معظم الجهود القائمة إلى اليوم لا تزال في إطار حفظ النص وتقديسه والتخويف من تطوير النظر فيه وفتح مغاليقه في ضوء مشكلات الناس ومعاناتهم، ذلك أن هذا التخويف نوع من الوهم، الذي مهما بلغ من الخطأ والشطط لا يمكن أن ينال من النص القرآني المحفوظ بحفظ الله، وسوف يبقى اجتهاداً بشرياً لا قدسية له، داعياً العقول والأفهام لتتحرك في كل اتجاه في رحلة الكشف عن أبعاد الخلود، فذلك لا يضر النص ولا يقلل من أهميته، بل يجعله محور التفكير والثقافة، خاصة أن القرآن هو خطاب للناس جميعاً، وقد أصبح اليوم بين أيدينا جملة واحدة، والمطلوب الاجتهاد في كيفية التنزيل على واقع الناس بحسب الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، لتحقيق خلود النص القرآني وامتداده واكتشاف السنن الجارية، وحسن التعامل معها، والابتعاد عن المساهمة بالعطالة والهجر، نتيجة الدعوة للتعلق بالسنن الخارقة التي شأنها إلى الله. وبذلك وفي إدراك أبعاد التدبر وممارسته، يمكن أن تتحقق النقلة الثقافية، ونُبصر كيف نتعامل مع القرآن، ونكتشف زوايا جديدة لأبعاد خلوده، وعندها نجد أنفسنا في القرآن، ويمكّننا ذلك من استنطاقه لحل مشكلات الإنسان في كل زمان ومكان.
copy short url   نسخ
15/07/2019
3051