+ A
A -
بقلم : سهام جاسم كاتبة قطرية
«كل ما هو داني
كل ما هو نائي
وكل ما هو جليّ
هو الإنسان»
بير لاغركفيست
عندما كتب السويدي الروائي والشاعر بير لاغركفيست (1891-1974م) الذي حاز على جائزة نوبل في الأدب سنة1951م روايته «ضيفٌ على الواقع» لا أظنُّه كان يعني بأندوز بطل الرواية الطفل الصغير بأنّه هو الشخص الوحيد فقط الذي حلّ ضيفاً على الواقع، بل تِبعاً لروايته فجميع البشر يُعدون أبطالاً في رواية ضيفٌ على الواقع لأن جميعهم حلوا ضيوفاً عليه أيضاً، وارتسمت على وجوههم علامات الاستفهام الأولى حول هذه الحياة والوجود بصيَغها المختلفة، طبعاً لم يكونوا فلاسفة، ولكنهم أفاقوا فجأة، ليجدوا أمامهم واقعاً ما وحياةً بنمطٍ ما يجب أن تُفهمَ وأنْ تُعاشَ بشكلٍ أو بآخر، وفي الآن ذاته هي تستدعي الكثير من الأسئلة..
وجدوا أنفسهم بشراً بأجسادٍ صغيرة، وعقول وقلوب لم تُدرِكْ بعد شيئاً، في عالمٍ يعجُّ بالكبار الحقيقيين أحياناً، وأحياناً أخرى بالكبار الوهميين..!
البطولة للطفولة
من الجميلٌ أن تكون البطولة في هذه الرواية لطفلٍ نعيش معه أول آثار الحياة التي طبعتها في ذهنه ونفسه..
واقع الحياة حين يعيشه طفلٌ فهو مزيجٌ من الحلم والخيال والحقيقة وشيء من التمني البريء الذي لا يعرفُ للمستحيلِ حدوداً..
لذا وأنت تقرأ رواية ضيفٌ على الواقع ستشعر بأنك تعيش المنولوج الداخلي للطفل الذي كُنْتَه سابقاً وسيبدو لك كأهم الأحداث في الحياة، أليست بدايات الإنسان تلك أمراً مهماً نقف عنده مُطولاً بين الحين والآخر لنبتسم..؟
لكننا قد لانكتبه في رواية ونجعله شيئاً من بطولة، وذلك هو الفرق بيننا وبين الكاتب لاغركفيست..
«عندما كُنْتَ صغيراً، كُنْتَ يوماً ذلك الغريب ومازلت تبدو كذلك، ألا يجلب لك هذا الأمر الكثير من الحيرة..؟! يقول الكاتب في إحدى قصائده:
أردت أن أكون غيري أنا
غريباً،
أحداً غيري أنا»
اقرأ معي هذا المشهد..
«عاد وتفرغ لسخام النافذة بعد رحيل القطار، ثم خالجه شعور مباغت بأنّ كُلّ شيء حوله غريب ومقفر، وكأنّ الكون سها عن نفسه، نسي ماهيته، لاحظ هذا على البيوت عبر الفناء، على كلّ شيء، فكَّر كيف أنّه قبع هناك يرسم بينما العالم حوله يتبدى في حالة جمود تام، خاوياً ومهجوراً..».
كان أصغر إخوته، وقد اعتاد أنْ ينزوي عند حافة النافذة ليتقوقعَ ويرسم على سخام الزجاج بإصبعه، كُلما اطمأنت نفسه بصوت ثرثرة والدته وأخته الكُبرى في المطبخ، ليُبددَ ذلك الإحساس بالوحدة والوحشة الذي يُخَيّم على المنزل عندما يغيبُ الأب في عمله في محطة السكك الحديدية، ويذهب إخوته الكبار إلى المدرسة..
جونسون العجوز الذي كان ينشر جذوع الأشجار في الغابة أخبره أمراً مهماً جداً، إذ قال له ذات صباح: «ما بالك تقفُ هكذا حاملاً هموم الدنيا على كتفيك !انطلق إلى الشمس ياولد، احرص على أن تنال حاجتك من الدفء في الصيف، وبعدها سنرى كيف تسير الأمور عندما يحلُّ الشتاء..».
فعل الصبي كما أشار عليه العجوز، وخطا خطوةً صوب الدنيا وأجال النظر فيها..
«انطلق إلى الشمس..خطا خطوةً صوب الدنيا.. رأى أنّ الشمس لاتنقصها في تلك اللحظة».
بعيني طفلٍ يظن أنّ ما أشرف عليه من مشهد صغير هو الدنيا، وإنّ ذلك الجزء الصغير الذي أضاءته الشمس، قد أزاحَ كلّ الظلام الذي اصطبغ الكونُ بسواده الحالك..
والشمس لدى الصغار في الحقيقة هي الدُنيا إذ تُمثلُ إعلان بداية اليوم حيثُ يتلقون منها أولى مشاكسات الطبيعة حين تبعث بأشعتها لعيونهم، وترسمُ بمهارةٍ ظلالهم التي تتبعهم، بل هي أول مايبدؤون برسمه في كراساتهم شمسٌ تبتسم مبعثرة الأشعة تُطلُّ من زاويةٍ ما من الورقة..
مخاوف وعواطف
تلك العواطف الجميلة التي صَوَّرَها الكاتبُ لطفلٍ صغيرٍ يعشقُ ويحنو على أسرته، ويشعر بالخوف عليهم من الفقد والبُعد، وتلك الأمور المُخيفة الأخرى التي يجهلها، إنّه بعد لا يدري شيئاً عن سُنة الحياة..
اقرأ معي كيف يصف والدته:
«تلك الأم التي اتسمت بطلعة نورانية، وعينين صافيتين رماديتي الزُرقة، وشعر ناعم خفيف غالباً ما فرقته في الوسط. ولاشك أن نورانية الطلعة لدى الناس تتفاوتُ في درجاتها، لكن ماميّزها حقاً أنَّها من أولئك الأشخاص الذين لم تقتصر نورانيتهم على الظاهر فقط. فالمرءُ يشعرُ أنَّها وُجِدت من أجلها أيضاً..»
هل سبق أنْ قرأت مثل هذا الوصف البديع الشفاف والرقيق لمظاهر الأمومة، كما تراها عينا طفلٍ بريء، وصغير، انظر لانعكاس الجمال كيف يبدو في مرايا الأرواح البريئة الطاهرة.. وعاود القراءة للمزيدِ من ذلك الوصف الأكثر دقة لتلك الناحية العاطفية التي تشغلها الأم في وجدان ذلك الصغير، يقول لاغركفيست واصفاً إياها:
«لكن أولئك الأشخاص أعينهم يمتلكون حسّاً خفياً بالأمان والحصانة، وكأنّهم متيقنون تماماً من أنّهم لن يُبادوا، أنّهم سيظلون موجودين إلى الأبد، وأنَّ مُصاباً لن يلحقَ بهم. يجوبون الأرض لا كمجرد ظلالٍ باهتة، بل ككائنات أساسية بدون أيّ موجبٍ يستدعي منها الجزع... نعم كانت الأم واحدة منهم ليس فيها ماهو غير واقعي أو استثنائي..»
تبدو الأم في عيون أطفالها تلك المرأة التي تُحيطهم بالحنان وتُبدد كلَّ إحساسٍ بالخوف أو الخيبة، قوة خفية غامضة بعيدة المدى لامتناهية تلك التي تمتلكها الأم، لأنّها الأم فحسب..!
في هذه الرواية نحن نقرأ ما وراء نظرات طفلٍ لأسرته، فرداً تلو الآخر، الأم، الأب، الجدة، الخال...
كل أولئك سكنوا مابين تصوراته الكبيرة، وأمنياته المخلصة لهم بالبقاء، والعيش معه تحت ظلال السقف نفسه للأبد، فهم يمثلون له بداية وعيه بالبشر، هم الوجوه الأولى في الحياة بل وأجملها، إنّه غضٌّ بعد، ولم يتسنَ له معرفة سُنن الحياة..
«لم يتضرع إلا من أجل شيء واحد فقط..
«أن لايموتَ، أن لا أحد منهم يموت! لا أحد منهم! أن يبقى الأب حياً، والأم وجميع الأولاد والمسنّون الذين في الريف. عدّهم كلهم، فرداً فرداً، كلّهم بدون استثناء! تضرّع أن لا يموت منهم أحد ! أنْ تبقى الأمور كما هي.أن..أن..لا يتغيّر أيّ شيء!».
الطفولة والزمن
وقد تحمل إلينا أحاسيسُ الأطفال بالزمن شيئاً من الطرافة لأنّها تنبعث لهم عبر من يكبرونهم سناً، إذ يتم تَقْدير الحياة لديهم زمنياً بمن يرون أنّهُ طاعنٌ في السن، يقول الكاتب:
«فكر بجده وجدته النائمين في الطرف الآخر، وكم بلغا من العمر عتياً.فقد كانا هرمين تماماً، ولديهما رائحة عتيقة تختلف عن رائحته.رائحة تهيأ له أنّه قادرٌ على تمييزها وهو في سريره. بل رأى أنّ لكلّ شيء في ذلك المكان رائحة..»*
وأظنك قرأت نموذجاً لذلك حين قرأت شيئاً من ضيف الواقع الصغير آندرز كم هو محقٌّ في مشاعره، وكم تبدو مخاوفه وتساؤلاته المُصابة بحمى رهاب الزمن والموت على شيء من النضج والإدراك المُبكرين..
إذ كيف للطفولة بكلِّ ما تجهله أنْ لا تكون كذلك وكيف لها أنْ تتجنب ذلك الإحساس بالتقزم إزاء الكون ومتغيراته التي أُتيحَ لأندوز أنْ يرى شيئاً منها، ثُمَّ من منَّا لا يخشى من تغيُّر بعض الأمور في حياته واختلافها..؟
أظنُّ أنَّ هذا الأمر بمثابة بوابة المخاوف الكُبرى لدى أيٍّ منّا..
بين البداية والنهاية
وقوف الكاتب عند مشهد مرض الجدة ومصارحتها هي ووالدة أندوز لبقية الأحفاد بقرب وفاتها بكل ما في المشهد من وجع إنساني وألم يُمثِّل غرابة هذا الاختطاف المُباغت لحياة أحدهم بينما على الضفة الأخرى هنالك من يخطو أولى خطواته في الحياة ويحتاج أن يظل في عالمه ذاك الذي يُخطط القدر لرحيله، بين حياة استوفت أمدها وامتدادها، تبدأ حياة أخرى تُريد أنْ تتصلَ وتتواصلَ مع تلك التواريخ القديمة، اقرأ السطور التالية للاغركفيست:
«كانت هذه أول مرة يقترب فيها الموتُ من بيتهم، ولذلك ران عليهم بشدة.أدركوا لحظتها مدى عمق انتمائهم بعضهم لبعض.ولم يستوعبوا فكرة أنّ واحداً منهم سيرحل عنهم، أنّهم سيفتقدونه، أنّه لن يستمرَ في البقاء بينهم أكثر مما بقي..».
إذن سيحدث ذلك التغيير الذي يهابه ولا يرغب به حتماً، إذ إنّ ذلك الرفض محال أن يستسلم للقبول لدى ضيف الواقع آندرز:
«نعم، الشمس واصلت إرسال أشعتها، كعهدها عندما ترسلُ أشعتها في منتصف النهار، في منتصف الصيف، لكن كلّ شيء هناك وُسِمَ جُوراً، وهذا لم يكن مُنصفاً»*.
شيء من الجدل الإنساني حول الحياة والموت يقلق آندرز على نحو غير اعتيادي لقد سبب له الهلع، فالفكرة من كلّ ذلك ليست بالفكرة العابرة التي قد تفرُّ منه حين ينشغل ذهنياً باللعب، إنَّها فكرة ترتبط به وجدانياً، إنَّهم يعبرون حياتك نحو حياةٍ أخرى بينما هم ليسوا أشخاصاً عابرين مُطلقاً...!
«إنّما في الحقيقة المرعبة التي تجلَّت في وجود شخصٍ حيٍّ بينهم يموت.شخص تهيأ له أنَّه بات لايعرف من هو، وإنْ حدثَ وفكر فيها، استحضر الذكرى السابقة التي حملها عنها وتشبّث بها..».
الإحساس أنك توشك أن تفقدَ شخصاً ما يضاهي عذاب فقده فعلياً أحياناً، وأظنُّ أنّ بعض المشاعر التي تنتمي لتلك الأجواء لم تصلها بل لم تقدر أن تبلغها أقوى محاولات التعبير عنها، أبلغ من تَحَدُرِ دمعةٍ من عينيك عنوةً كنت تُجاهد أنْ تظهر لأيٍّ كان..لا أكادُ أجد تعبيراً أبلغ..!
آندرز يافعاً
في هذه المرحلة سيتحرر من بعض أفكار ومخاوف الطفولة، سيغدو القلبُ شاباً تواقاً للشيء الكثير من الحياة، إذ لطالما كان ينظرُ ويفسرُ لنفسه وهو طفلٌ صغير الكثير من مظاهرها، المرتبطة بمن حوله، وتضرع كثيراً من أجل البقاء والخلود لمن يُحِب، لكنّه عندما كَبُرَ اتجه تضرعه لأجل أمرٍ آخر، يقول الكاتب:
«ثم يبدأ بالابتهال، لا يطلب سوى أنْ يبقى حياً. لاشيء عدا ذلك. التضرع السابق ذاته..التضرع المعهود.أن يعيشَ فقط.يبقى حياً.لامطالب أخرى بخصوص أي شيء. بقية الأشياء يمكنها أنْ تتبع هواها».
فقد سمع والدته وهي تتحدث مع أخته حول مرضه الذي رافقه منذُ طفولته وعن مدى خطورته، لذا بدأ ينظر للحياة التي في داخله ولتلك الروح التي يحتضنها لتجعل من جسده مادة تنبعث منها الحياة، بعد أن كان يُمَجِدُ خلود من حوله ويُصلي لأجله..
ثم بدأ ينظرُ للناس حوله، ويتجه بعواطفه نحوهم ويتجرد من تلك الطفولة المذعورة من الفقد، لقد بدأ يكونُ هو...
في هذه المرحلة كوَّن العديد من الصداقات لم تكنْ شخصياتهم متطابقة لكن البشر يجتمعون عند نقطة التقاءٍ ما رغم كل اختلافاتهم وتناقضاتهم، خاصةً إذا ماكانوا بعد في مقتبل العمر.
آندرز والحب
لقد شعر بشيء من الحب والميل لتلك الضابطة الشابة التي وصف مشاعره نحو جمالها كالتالي:
«انتابه فجأة شعور بأنّ هنالك شيئاً مُستبداً وطاغياً في ذلك النقاء وتلك الطيبة، وفي شلال النور المُنثال عليها. خُيِّل إليه أنَّه سبق له أنْ رأى تلك الأشياء من قبل..نعم..من المؤكد أنَّه وجد فيها شيئاً من أحدٍ عرفه..».
لقد عاد مجدداً ليحب من تتلاقى في الصفات مع والدته، ذلك الحب الممتدُّ الجذور..
انتهت الرواية عند بداية الحديث عن مشاعر الحب والود تلك، وعند مرحلة الشباب كانت آخر سطورها: «انتهت سنوات شبابه الأولى، سنوات من التفسخ البحت، والانحلال، والارتباك..».
لقد اكتفى بوصف مرحلة الشباب بسطرٍ واحدٍ فقط في الرواية وكأنّه تهميش مُتعمَّد لهذه المرحلة يهدف لإعادة تركيز الضوء على زمن التقاء الطفولة والشيخوخة معاً.
رسالة الرواية
أظن أنّ هذه الرواية جاءت لتبعثَ رسالةً ما حول تلك المرحلة الغريبة التي يعيشها الإنسان غريباً حقاً، في الطفولة والشيخوخة حيث أقصى مراحل الضعف والاحتياج الإنسانيين..
تبدأ بهما في إشارةٍ لذلك الزمن الغريب الوهمي الذي لاتعرف كيف ستحسبه وتُحصيه من أيام عمرك، فمواجهتك لضعف بداية الحياة يشبه إلى حدٍ ما مواجهتك لضعفِ نهايتها..!
أغلب الروايات جاءت لتركزَ على مرحلة الشباب، لكن هذه الرواية عُنيت بالطفولة والشيخوخة معاً وبين ألم الاستسلام لفكرة العدم حين يواجه الوجود في هذه الحياة، فهي تتحدث عن الطفولة وهي ليست موجهة للأطفال، إنما للطفولة التي غادرها أولئك الكبار..!
وفي خاتمة هذه المقالة أجد في هذا الاقتباس لكاتب الرواية إجابةً موجزة لكل تساؤلاته وتوجساته التي أثارها لديه ذلك الواقع الذي حلَّ ضيفاً عليه، يقول لاغركفيست:
»ولأول مرة عرف كم أنّ الحياة مفككة وكذوبة، وكيف أنّ المرء يعيشُ عُمراً ناقصاً وزائفاً والأشياء الأخرى تواصل مسيرتها، نعم عرف،عرف أنّ الحياة تُقحم المرء فيها، ثم تُلفق له خدعة الانسجام معها، وبينما ينزلق كل شيء من تحته، تتابع مظاهرها التقدم..».
copy short url   نسخ
20/06/2019
1812