+ A
A -
بقلم : إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
كانت هنالك حكاية من حكايات الأساطير ترويها لنا جدتي كل مساء قبل النوم، حكاية ترويها لنا على أضواء الشموع المنصهرة ومع نسمات الليل اللطيفة تداعب أقدامنا العارية، حكاية عن امرأة طاعنة في السن تخرج كل ليلة عندما ينتصف القمر في قلب السماء لتجلس على رمال الشاطئ المتماوجة وبيدها سلة مملوءة بالزجاجات الفارغة، كل زجاجة منها تملؤها بحلم أو أمنية، تجلس طوال الليل إلى بزوغ الفجر وهي تسكب الأحلام في هذه الزجاجات الفارغة وعند انبثاق أول خيوط الفجر ترميها واحدة تلو الأخرى عالياً في السماء لتعكس الزجاجات نور الفجر فتتلألأ وتسقط في قاع البحر محدثة دوياً هائلاً يوقظ النائمين على الوسائد الريشية.
تستقر الزجاجات في قيعان البحار بينما تتلاشى المرأة العجوز بشكل غامض، كان هذا دأبها كل ليلة لسنين عديدة، ولا يستطيع أن يراها إلا من كان موقناً بحلمه ساعياً لاهثاً خلفه كطفل يتعلق برداء أمه ويتشبث بها بكل ما أوتي من قوة، استمرت هذه المرأة في تعبئة الأحلام إلى أن جاء ذلك المساء الذي لم تعد تظهر فيه، انتظر الحالمون ظهورها أياماً وشهوراً عديدة لكنها لم تعاود الظهور.
ظلت الأحلام حبيسة العقول والقلوب تنتظر من يخرجها إلى بحار الواقع، لكن طال الانتظار بالناس طويلاً، لم يعرف أحد سبب اختفائها !! ولا متى ستعود ؟ ومضت السنوات إلى أن نسي الناس أمرها وأصبحت المرأة العجوز صاحبة الزجاجات أسطورة تناقلها الناس جيلاً تلو الآخر.
هذه كانت من أكثر القصص المحببة لدي والتي اعتادت جدتي أن ترويها لنا، وفي كل مرة كان يقيني يزداد بإن هذه الحكاية ليست من وحي الخيال إنما هي حقيقة، وكنت أتمنى أن تعود هذه المرأة لتخبرني عن أسرارها.
كبرت وكبرت معي ذكريات قصص جدتي، وفي إحدى ليالي الصيف الساخنة بينما كان النوم يجافيني جلست في شرفة غرفتي أتأمل جمال النجوم في السماء كعقد من الأحجار الكريمة ينتظم بشكل خلاب، ويزيد من جمال هذه الليلة ظهور القمر كماسة كبيرة تضيف جمالاً لهذا العقد المبهر، فجأة تنامى إلى ذاكرتي حكاية جدتي عن أسطورة المرأة العجوز، شعرت بشيء يدفعني للذهاب إلى شاطئ البحر، وكأنني فقدت السيطرة على قدماي، وجدتها تسوقني رغماً عني إلى رمال البحر الناعمة الطرية.
كنت أمشي بخطوات متثاقلة ولا أنكر إنني كنت أشعر بقليل من الخوف والقلق، لامست قدماي أمواج البحر الراقصة على الشاطئ، شعرت ببرودة المياه تسري في جسدي ونسمات الليل تداعب خصلات شعري الثائرة، أغمضت عيني لبرهة وغرقت في بحر من الأحلام التي لا تنتهي، تناهى إلى سمعي صوت همهمات خافتة تأتي من بعيد التفت لأجد إمرأة مسنة، كأنها خرجت من إحدى الروايات الخيالية، ترتدي وشاحاً حريرياً مزخرفاً بزهور صفراء وحمراء، ويتدلى من جيدها قلادة زمردية ساطعة في ظلمة الليل، وتضع على رأسها قبعة مصنوعة من القش المهترئ.
نظرت إليها مطولاً وهي تقترب مني، شعرت بإن ساقاي ترتجفان من شدة الخوف أردت أن أجري هاربة لكن قواي تخلت عني، وقفت المرأة أمامي مباشرة ابتسمت لي وناولتني زجاجة فارغة من بين زجاجات عديدة في سلة بيضاء تحملها في يدها، كانت تقف ممدودة اليد بانتظار أن أتناول الزجاجة منها، همست بصوت خافت هل أنتي صانعة الأحلام ؟ ضحكت بصوت مرح وقالت هكذا يلقبونني.
تناولت من يدها الزجاجة بيد مرتعشة سألتها: ماذا يفترض بي أن أصنع بها ؟! فقالت لي ضعي فيها حلمك وأمنيتك.. قلت لها: هل لي أن أسئلكِ سؤالاً ؟! فأجابت بإيماءة من رأسها بإن نعم، قلت لها لماذا اختبأت طوال الأعوام المنصرمة وتركتي من خلفك كل الأحلام حبيسة في العقول، فقالت لي: ذهبت عندما توقف الناس عن الإيمان بأحلامهم والسعي خلف أمنياتهم، حزنت بشدة لعدم تصديقهم بوجودي، وعدت من جديد لإنكِ عشت حلمك وآمنت بحدوث المعجزات.
سأظل أعود كل ليلة طالما هنالك من يحلم ومن يسعى خلف هذا الحلم..
وضعت كل أحلامي في الزجاجة التي أعطتني إياها ثم قبلت زجاجتي ورميتها بأعلى ما استطعت، رأيتها تحلق عالياً حتى كادت أن تلامس القمر، ثم عادت لتسقط بقوة هائلة في قاع البحر وتحدث صوتاً أشبه بالموسيقى الحالمة تطرب الأسماع مع زخات متطايرة من ماء البحر كونت قوساً من ألوان الطيف الساطعة بزغت مع بزوغ أول خيوط الفجر، شعرت بقلبي يخفق سروراً وبهجة عدت أهرول إلى المرأة العجوز أردت أن أشكرها لكنني لم أجدها، بحثت كثيراً ومطولاً لكنها اختفت مع قدوم الفجر تماماً كما تحكي الأسطورة، لكنني سمعت صوتها يهمس في أذني لا داعي لأن تشكريني شكري يكون بإيمانك بإحلامك وتصديقك بوجودي.
كلما شعرتي بالحزن تعالي إلى شاطئ الأحلام فهنا يكمن السحر.
copy short url   نسخ
18/06/2019
3242