+ A
A -
كتب- محمد الربيعفي مقدمته لرواية «البيت الكبير» للروائي الكولمبي الرائد الفارو سيبيدا ساموديو، كتب غابرييل غارثيا ماركيز عن معطيات اللحظة الجديدة في الأدب العالمي التي تم الاصطلاح عليها بالواقعية السحرية، وقال: على الرغم من أن هذه الرواية عن مذبحة، إلا انه ليس فيها قتيل واحد، إنها نوع من النوستالجيا المحضة، وكتابة التاريخ بعيداً عن الشفقة المروعة على مصير الشخصيات.
وفي كتابه «أفواه الزمن» يطل على زمن الكتابة، الساحر الأورغوياني إدواردو غاليانو، من شرفات ترجمة صالح علماني إلى العربية، ليبدد وهم الحدود بين التفاصيل والأشياء والأجناس الابداعية، ويكشف ضلال المسلمات القديمة بوجود معازل وجدر تحتمي وراءها الأفكار والأجناس في تجربة الكون وخبرات الإنسان، فالحياة «هيولى» تتزامن داخلها التفاصيل في كوكب الشعر والسرد والأسئلة، والشاعر الروائي هو حلم الإنسانية الذي تتقاطع في لوحته البيانية «بنية الحلم/‏‏‏ بنية الشعر» خبرات وحدوس وإشارات في ألفة يستحيل تحققها في أفق العادة والتكرار والتشابه.
في «نصوص» غاليانو الصادرة عن دار المدى بدمشق يعبر السرد والشعر حدودهما، وينسربان خارج أنماط ومناطق إنتاجهما المعهودة والمألوفة، ليكشفان ويدلان ويضيئان في خبرات إنسانية أخرى، فاستطاع عبر ما اصطلح عليه في العصر الحديث بـ«الشعرية» أن يصبح ناظماً منهجياً ومفتاحاً سحرياً لتأملات وحفريات أسهمت في تصعيد حركة الكشف عن أسرار الكون كثيراً.
ودوننا هذا التراث الواسع من التأسيسات العالية في شعرية النص «أياً كان حقل إنتاجه» وشعرية الصورة وشعرية النار، وشعرية النحو.. الخ، فأصبح الشعر سراجا يتوهج في برية المعرفة والجمال ويضيء دروب السالكين في محجة الأشواق إلى عالم أجمل.
مغامرة غاليانو تبدأ في كتابه من بوابة الزمن، بحثاً وكشفاً عن قواه المدمرة إذ يقول: «من زمن نحن. نحن أقدام الزمن وأفواهه. وعاجلاً أو آجلاً، مثلما هو معروف، ستمحو رياح الزمن الآثار. عبور اللاشيء. خطوات اللاأحد.. أفواه الزمن تروي الرحلة».
و يرصد غاليانو مواجهة الإنسان لهذه القوة المدمرة بالحب والحلم، إذ تكمن شعرية الحلم في قدرته على احتواء واختزال واحتضان هذه الحدوس وهذه الرغبات.. وفي قدرته على خلق حالة تجاور مدهشة بين الممكن والمستحيل بين التوق والمحال بين الفوضى والنظام، تكمن في قدرته على خلق فضاء اسطوري تتعانق فيه الماء والنار والحب والكراهية، هذه التجاورات المدهشة تجعل من الأحلام مادة شعرية تعطي السياق الشعري الخصوبة والاندفاع وتهبه طبيعة المغامرة التي يختزنها الحلم في قدرته على التجاوز، وعلى عبور الحدود بين المادة والروح، بين الوعي واللاوعي، وتهشيم الأسيجة التقليدية القائمة بين الشعور واللاشعور.
فحلمية الشعر تكمن في مجازيته المدهشة وقدرته على خلق تآلفات بين الأضداد في فجائية ومباغتة وفي قدرته على الإعلاء من قيم الأشياء، وفي خلق فضاءات جديدة كي تتعالق من جديد بعد أن تغادر علائقها المألوفة إلى علائقها الجديد في مجرة المجاز. يقول غاليانو في نص «أزمنة الزمن»:
«انه واحد من الأشباح، هكذا يدعو أهلي سانت ايله المسنين القلائل الذين لا يزالون غارقين في الوحل، يطحنون أحجاراً، يكشطون رماداً في هذا المنجم المهجور الذي لم توجد فيه مقبرة قط، لأن الموتى انفسهم لم يشاؤوا البقاء هناك.
منذ نصف قرن، وصل هذا المنجمي القادم من بعيد جداً، إلى ميناء كايينا، وتوغل بحثاً عن الأرض الموعودة، وكانت قد أزهرت هنا، في ذلك الزمن، حديقة ثمار الذهب، والذهب يفتدي أي غريب ميت من الجوع، ويعيده إلى بيته سمينا بالذهب، إذا ما شاء له الحظ ذلك. الحظ لم يشأ لكن هذا المنجمي مازال هنا، دون اية ملابسات سوى خرقة حول خصره، يأكل لا شيء، ويأكله البعوض، يقلب الرمل يوماً بعد يوم، بحثاً عن لا شيء، وهو جالس وأمامه طبق التنقيب عن الذهب، تحت شجرة أشد منه نحولاً، تكاد لا تحميه من ضراوة الشمس.
يصل سيباسياو سالغادو إلى هذا المنجم المنسي الذي لا يزوره أحد، ويجلس إلى جانب الرجل، فيقول له صياد الذهب الذي لم تبق في فمه سوى سن وحيدة، سن ذهبية، تلمع في ليل فمه عندما يتكلم: «ـ زوجتي جميلة جداً. ويعرض صورة ممزقة الحواف وممحوة.
ـ إنها تنتظرني.. يقول.
ـ إنها في العشرين من عمرها.
منذ نصف قرن وهي في العشرين من عمرها، في مكان ما من العالم».
المجازي والغرائبي والمدهش إذن هي المناطق التي يعمل داخلها الحلم والسرد، ويؤسسان داخلها منطقه وهي التي يعمل في داخلها الشعر ويؤسس مملكته الحلمية.
وحيث يأتي الواقع إلى الحلم والشعر والسرد بعد أن يتخلى عن واقعيته المحدودة «وشيئيته المحدودة، ليجلس إرادياً في أوعية الرمز»، يغادر علائقه المحدودة ليتأسطر «من أسطورة» عبر الحلم وعبر الشعر، يخلع حلله القديمة ويرتدي حلته السحرية الجديدة في مدارات الحلم والشعر وكما يشكل الحلم أحيانا مادة تعويض واستلاب وقهر وخلق وتوليد، يشكل الشعر أحياناً مادة خلق وتوليد واستلاب وقهر وتعويض لإعادة صياغة الحياة بعيداً عن يوميتها ورتابتها إلى فضاء بكارتها وجدَّتِها. بالانتقال من معيار الهنا والآن إلى معيار الهناك، من اليومي إلى الوجودي، من العلمي إلى الأسطوري، من الإفصاح إلى الرمز ومن العبارة إلى الإشارة.
وكما يعمل الشعر في منطقة المسكوت عنه ويفجر «اللا مفكر فيه» يفجر الحلم ويفتق ستور الحواس عن المكبوت والمسكوت عنه، وينتج ويعيد إنتاج «اللا مفكر فيه» في مساحة الحرية التي يتيحها الحلم وفي حرية الأشياء في حركتها داخل السياق الشعري لإعادة بناء الحياة، هناك في الوجودي وفي الإبداعي.
يقول غاليانو في نص «الرحلة»:
«اوريول فال الذي يتولى العناية بحديثي الولادة في أحد مستشفيات برشلونة، يقول إن أول حركة للكائن البشري هي العناق، فبعد الخروج إلى الدنيا، في بدء أيامهم، يحرك حديثو الولادة ايديهم، كما لو أنهم يبحثون عن أحد.
أطباء آخرون، ممن يتولون رعاية أناس عاشوا طويلا، يقولون إن المسنين في آخر أيامهم يموتون وهم يرغبون في رفع أذرعهم
هكذا هو الأمر، مهما قلبنا المسألة، ومهما وضعنا لها من كلمات، ففي هذا، ببساطة، يختزل كل شيء، بين خفقتين بالأذرع، دون مزيد من التفسيرات، تنقضي رحلة الحياة».
دار المدى وصفت تجربة غاليانو في«أفواه الزمن بأنه»:
مثل طائر يهبط إلى الأرض بسرعة ليلتقط شيئاً لا نراه، كذلك يفعل إدواردو غاليانو في كل كتاباته يلتقط صورا نادرة من حياتنا اليومية، ويعيد تلوينها بأقلامه الساحرة، في صور مدهشة وغريبة كأنها من عالم اخر.
ولد غاليانو في مونتيفيديو (الأوروغواي) عام 1940. وعاش سنوات عديدة في المنفى لأسباب سياسية، في الأرجنتين وإسبانيا. وهو باحث وروائي وصحفي من أشهر أعماله- شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة- ذاكرة النار- كتاب العناق.، وقد ترجم كتابه «شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة» إلى أكثر من عشرين لغة.
من نصوص «أفواه الزمن» لادواردو غاليانو .
شجرة تتذكر
«سبع نساء جلسن في دائرة. ومن بعيد جداً من قريتهن في موموستينانغو، حمل إليهن هومبرتو أكابال بعض الأوراق الجافة، جمعها هو من تحت شجرة أرز.
كل واحدة من النساء سحقت ورقة، برفق، عند أذنها، وهكذا انفتحت لهن ذاكرة الشجرة.
إحداهن سمعت الريح تهب في أذنها.
أخرى، سمعت الأغصان تتأرجح برفق.
أخرى، خفق أجنحة عصافير.
وقالت أخرى إن المطر يهطل في أذنها.
وأخرى سمعت وقع خطوات بهيمة تركض.
أخرى صدى أصوات.
وأخرى حفيف خطوات بطيء».
تأسيس النهارات
«إنه الأول. عندما تدنو نهاية الليل، يكسر صوت ناشز الصمت. النشاز الذي لا يتعب أبداً يوقظ معلمي الغناء. وقبل الضوء الأول تبدأ كل طيور العالم سيرنادها عند النافذة، محلِّقة فوق الأزهار التي تروقها.. بعضها يغني حباً بالفن، أخرى ترسل أخباراً، أو تروي تقولات ونمائم ودعابات، أو تطلق خطابات، أو تعلن أفراحاً، لكن الجميع، الفنانين، الصحفيين، الثرثارين، اللعوبين، المضجرين، المجانين، يجتمعون في رطانة واحدة لأوركسترا متكاملة. هل تعلن الطيور عن انبلاج الصبح؟ أم أنها تصنعه مغنية؟».
أخبار
صناعة التسلية تعيش على سوق العزلة
صناعة العزاء تعيش على سوق الغم
صناعة الأمن تعيش على سوق الخوف
صناعة الكذب تعيش على سوق البلاهة
أين يقيسون هذه النجاحات؟ في البورصة
وكذلك صناعة الأسلحة. سعر أسهمها هو أفضل خبر في أي حرب.
copy short url   نسخ
12/06/2019
5500