+ A
A -
أمجد ناصر كاتب اردني
أكثر من مرة قرأتَ معلقة عمرو بن كلثوم. كان ينبغي المرور بهذا الذهب المعلق على أستار الكعبة الأدبية. فتنك الإيقاع أولاً. فتنتك المبالغة في الوصف إلى حد الكذب المبهر. ثم، لاحقاً، شدّتك الدراما بين العَمْرين أكثر مما فعلته قعقعة كلامٍ لم يعد لديه ما يفعله في التجمعات العشوائية لمدنٍ مرتجلة. مدن الإسمنت والصفيح والأنفاس المكوّمة فوق بعضها بعضاً، فقد صرتَ ترى الكلمات على نحوٍ مختلف. لم يعد ممكناً لك أن تطيق التباهي الصاهل بعد أن كان يسكرك. مع ذلك لم تستوقفك، مرة واحدة، كلمة «الثفال» التي كانت تطرق سمعك في البيت كل يوم. رنَّت في رأسِك كجرس. استرجعتَ صورة أمك مقرفصةً، على هيئة غزالةٍ مُعمّرة، في حوش البيت. عدتُ إلى «لسان العرب» أستقصي أصل الكلمة ومعناها، فكان ما يلي: الثِّفال (بالكسر) هو الجلد الذي يبسط تحت الرحى، ليقي الطحين من التراب. لم يرد «الثِّفال» عند عمرو بن كلثوم وحده، بل، أيضاً، عند زهير بن أبي سلمى في حديثه عن الحرب (وكان الرجل شاعر السلام) حيث يقول: فَتَعـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحى بِثِفَالِهَـا/ وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُم تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ.
أعرف أن زهير يتحدث عن حرب داحس والغبراء التي دارت بين «عبس» و«ذبيان»، بسبب فرسين، واستمرت، كما يقال، أربعين عاماً. هذا موضوع آخر أتركه، مختنقاً بغباره الذهبيِّ، في كتابي المدرسي القديم. ما يهمّني، هنا، لفظة طفولتي الغريبة: «الثّفال» التي تعود إليّ كلما أتذكر كلام البيت أو كلام أمي. اللفظة نفسها. والمعنى نفسه عند عمرو بن كلثوم وزهير. فماذا بشأنها أمي، فضة العويِّد، التي لم تذهب إلى مدرسةٍ قط، ولم تعرف شيئاً عن المعلقات؟ إنها قطعة القماش المربعة التي قد يكون أصلها ثياباً بليت، وأعيد إنتاجها مجدّداً، يوضع عليها الطعام الذي كنتم تتناولونه متلاصقين، كتفاً لكتفٍ ومتربعين على الأرض. إنها، أيضاً، قطعة قماشٍ أخرى، مثلها يُلفُّ بها الخبز ليحفظ طرياً، وهي نفسها التي توضع تحت الرحى، ليقع عليها ما «يجرُشه» الحجران بفكّيهما الأسودين. ثِفال أمي هو، نفسه، ثِفال عمرو بن كلثوم وزهير، هو نفسُه، بلفظه وفعله، ظل يُجرجر أطرافه المهترئة، حتى جاء البلاستيك بأعاجيب غيّرت، في سرعة البرق، أدوات حياةٍ وأسماءها، عاشت قروناً بين الأيدي وعلى الألسن.
{ عن العربي الجديد
copy short url   نسخ
25/05/2019
1477