+ A
A -
محمد الشبراوي
في مقدمة كتابه «حصاد الهشيم» كتب إبراهيم عبد القادر المازني (1889 - 1949): «هذه مقالات مختلفة، تباع المجموعة بعشرة قروش لا أكثر، وأقسم لك أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجًا، ومجهود أعصابي وهي سقيمة بأبخس الأثمان! إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولًا وقَصرًا وعمقًا وضحولة، وأنت تشتري كلَّ أربعٍ منها بقرش! ثم أنك تشتري كتابًا هو على الأقل زينة على مكتبك، على أنك قد لا تهضم أكلة مثلًا فتشعر بالحاجة إلى التسلية وتجد أمامك هذا الكتاب؛ فالعن صاحبه وناشره ما شئت! ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه وتنكب به غيرك! أفقليلٌ كل هذا بعشرة قروش؟!»
كلمات المازني تقطر أسى، وتشير لحال الكاتب وما يجده من عناء في تسويق بضاعته، وقد زهد فيها الناس فهي لهم بضاعة مزجاة، ويذكرني ذلك بحوار الإعلامي الراحل فاروق شوشة مع الأستاذ يحيى حقي في برنامج شريط الذكريات، وقد سأله شوشة عن رأيه في مستوى الإقبال على الكتب والقراءة؛ فلم يتمالك حقي نفسه وقال: «لا تدعني ألطُم على خدي!». وكتب توفيق الحكيم في البرج العاج: «ولكننا أدباء العناكب؛ ننسج في الظلام، ونعيش في الجدب والحرمان». والسؤال: هل أدركت المازني وحقي والحكيم ومعاصريهم حرفة الأدب؟!
ذكر أبو هلال العسكري (308 - 395هـ) في كتابه الأوائل أنه لما بويع عبد الله بن المعتز بالخلافة سنة 296هـ، ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ثم قُتِل، قال الناس: «لم يكن به بأسٌ ولكن أدركته حُرفة الأدب»، وفي تاريخ آداب العرب ينسب الرافعي ظهور تعبير «حرفة الأدب» إلى ابن بسام، وخالفه في ذلك النقاد والمحققون وسيأتي الحديث عن ذلك بعد قليل، ويُنسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 174هـ) قوله: «حِرفةُ الأدب آفةُ الأدباء«. وفي كتاب المبهج يقول أبو منصور الثعالبي: «حِرفة الأدب حُرفة»، وفي معرض حديث الباخرزي عن أدباء لم يروا من أدبهم سعة من العيش ولا كفافا، يقول في دمية القصر: «وكيف كان فهذه حِرفةٌ لا تنجو من حُرفة، وصنعةٌ لا تنجو من ضرعة، وبضاعةٌ لا تسلمُ من إضاعة، ومتاعٌ ليس لأهله استمتاع».
أبو هلال العسكري لغويٌ بارز بارع، وله عدد من المصنفات منها كتاب الصناعتين، وكتاب جمهرة الأمثال، ومع ذلك فقد أدركته حرفة الأدب؛ فقاسى منها وعانى وتاجر في الحرير لينتشل نفسه وأهله من الفقر، وضاقت به السبل حتى قال:
جُلُوسي في سوقٍ أبيع وأشتري دليلٌ على أن الأنامَ قرودُ
ولا خير في قومٍ تُذلُ كرامهم ويعظُمُ فيها نذلُهم ويسودُ
وتهجوهم عني رثاثةُ كسوتي هجاءً قبيحًا ما عليه مزيدُ
الحُرفة (بضم الحاء) تعني سوء الحظ والحرمان والشؤم والتعاسة، من قولك حُورِفَ فلانٌ إذا ضُيِّق عليه في معاشه وشُدِّد عليه في معاملته، ومنها المُحارَف، وهو المحروم محدود الرزق، وعكسه المُبارك، والحُرْفُ الاسم من قولك رجلٌ مُحارَف أي منقوص الحظ لا ينمو له مال. أما الحِرفة (بكسر الحاء) فتشير للخبرة والاكتساب؛ فيقال: يَحْرِفُ لعياله ويحترف ويقرِشُ ويقترش بمعنى يكتسب من ههنا وههنا، وحَرَفَ لأهله واحترف يراد بها كسَب وطلب واحتال، وفي الحكمة:»من لم يحترف لم يعتلف»، والمحترف هو الصانع والحاذق بمهنة أو حرفة أو طريقة، وقيل الاحتراف الاكتساب أيًّا كان.
copy short url   نسخ
25/05/2019
3301