+ A
A -
أمجد ناصر كاتب أردني
ما كنتُ أرغبُ بالعودة إلى بيت الثفال: بيت أهلي في المفرق (الأردن) على هذه النحو الذي صرت إليه. منذ الدرجة الأولى، بدأت أوطّن نفسي على بيتٍ آخر، مجهّز لرجل مريض.
بمشقةٍ وصلت إلى مطبخ بيتنا، وقد كان أكثر من مجرّد مطبخ. يمكن أن يكون أكثر من غرفة طعام، وغرفة قعدةٍ تلتمّ فيه العائلة في أوقات معلومة، لا تحدّدها الساعة، بل الشمس في السماء. ما أن أسكنت الروائح القهوة الهال والقرفة الروعي، حتى عادت الأصوات تنبعث من غير جهة ومكان، فها هو صوت أمي ينادي: هات «الثفال». خذ «الثفال». أين «الثفال». وهنا صوت أمي، وهي تطلب مني، أو من أحد إخوتي، إحضار ذلك «الشيء» الملازم لكل وجبة طعام، حتى هبَّتْ لدائن البترول، فأغرقتنا ببلاستيكها العجائبي الملون.
اختفى «الثفال»، وحلَّ محله «المشمّع»، ولكنَّ ذلك لم يحدث إلا بعد وفاة الشيء، خارج البيت، بعيداً عن بيوت الأقارب المتراصّة كجسدٍ من طينٍ، وتبنٍ يتنفس بمئة رئة. اللغة هي التي دلتك إلى ذلك. لغة البيت. تحديداً، لغة الأم. في بيتكم «لغةُ» ليست «لغة» المدينة. الكلمات دلّتك إلى «أصلك» بسبب لسان أمك الذي لم يخضع لـ «التطبيع». الذي ظل محتفظاً، حتى آخر لحظةٍ، بغربةٍ تتضاعف مع اطراد تمدين محيطها. لم تكن البداوة في بعض البيئات التي عشتَ فيها صغيراً موضع احتفاء، أو حتى شارة اختلاف. كانت أحياناً سبّة: ولك يا بدوي، يا مصدّي! كنت تعرف أنك تتحدّر من تلك الأرومة المذمومة، ولكن أين الصدأ؟ لم يكن «الثفال» هو الفارق الوحيد بيني وبين الآخرين. ثمّة سلسلة طويلة من الألفاظ والمجازات ظلت تتلكأ على لسان البيت، فيما انقرضت في لغة المدرسة والشارع، وربما لم تُسمع قط. ستعرف، عندما أخذت اللغة تتجاوز، عندك، دور العراك أو الشتيمة، أصل عددٍ من الألفاظ التي أرَّقت طفولتك.. ولكن ليس «الثفال». إنه مجرّد لفظٍ بدويٍّ غريبٍ، مُنَفِّرٍ، لا معنى له!
في دربٍ للمشاة أشبه بخطوط متاهةٍ ملتفّةٍ وسط حقول مقاطعة كِنت الإنجليزية الخضراء:
كأنَّ حُدُوجَ الَمْالِكِيَّةِ غُدْوَةً/‏ خَلايا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ... أن الموقع المذكور في معلقة عمرو بن كلثوم على الخط. سمعتَ، وأنا شارد الذهن بعض الشيء، أبياتاً يتوعد فيها، بنبرة فخرٍ مجلجلة، خصمه عمرو بن هند:
أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا/‏ وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ إلىَقِيْنَــا
بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّأيَاتِ بِيْضـاً/‏ وَنُصدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا.
إلى أن وصل الترنّم بالرويِّ المفتوح على فضاء التباهي الفاضح إلى هذين البيتين:
متَى نَنْقُـل إِلَى قَومٍ رَحَانَـا/‏ يكونوا فِي اللِّقَاءِ لها طحِيْنَـا
يكوْنُ ثِفالُهَا شرقِيَّ نَجْـدٍ/‏ وَلُهْـوتُهَا قُضَـاعَةَ أجمَعِيْنـا.
copy short url   نسخ
22/05/2019
639