+ A
A -
لم يحدث أنْ رأيتُ رجلاً يُعنى بقيافته، مثل استاذ النقد في جامعة ليننغراد في الاتحاد السوفياتي السابق (بترسبورغ حاليا) ألكسي ماسلوف يرحمه الله.
كان ماسلوف مولعاً بـ«الشياكة» التي يزيدها قوامه تماسكاً ينسج آيةً في الوسامة التي كانت موضع حسد كثير من الأساتذة، ووله الكثيرات اللاتي كُنّ يتابعنه عن كثب. هنّ أطلقن عليه وصف «خاطف العيون والعقول المتعجرف»، إذ كان شديد الاعتزاز بنفسه، قليل الكلام، غزير المعرفة والتأليف.
ذات محاضرة، كنت أجلسُ في المقاعد الأمامية حرصا على متابعة كل حرف ينطقه أستاذنا العالم، وهو يشرّحُ نظريات النقد ويسوق الأمثلة من الآداب العالمية، فنندهش لسيل المعارف التي تنساب على لسانه.
أذكر أنني كنت أحملُ في حقيبة الكتب رواية «أنّا كارنينا» باللغة العربية، أخرجتها بسلاسة، فوسوس لي الشيطان بفتحها ومواصلة القراءة في الأحداث التي لم أستطع مقاومة تتبعها. بدا أنني انهمكت طويلا في القراءة، بل وغرقت في الأسى الذي يطلق عنانه الروائي العظيم ليف تولستوي فيأخذ قارئه دون شفقة!
كنت أجلس بين زميلين روسي وقبرصي يوناني، لم أنتبه للكزات وتنبيهات زميليَّ بأن الأستاذ يتابع ما أقرأ. يبدو أن الأمر طال حتى بلغ أن وقف الأستاذ أمامي ليقول: هذا الرفيق القادم من الشرق يحرص دائما على أن يجلس في المقدمة وأنا أُحييه، لكنه اليوم قرّر أن يقرأ بلغته كتابا يبدو أنه جذّاب، حد أنه لا يسمعني!
بلكزةٍ قويةٍ من زميلي القبرصي «خريسانتو خريسانتوس» (هو اليوم رئيس تحرير لإحدى اليوميات في بلاده)، انتفضتُ فأدركتُ أيّ حرجٍ أوقعتُ نفسي فيه.
بإشارة من يد أستاذنا، قُمْتُ.
دهمني تعرّقٌ وتلبسني خجلٌ شديدٌ:
- قل لنا ماذا تقرأ..
- رواية «أنّا كارنينا» لكن بلغتي العربية!
- رائع أن تقرأ هذه الرواية وإن بلغتك.. يبدو أنها تشدّك كثيرا.. أين وصلت؟ وكأنك تجاوزت منتصف الرواية ؟
- نعم دكتور. أنا أعتذر بشدّة فهي سقطة مني في محاضرتكم القيّمة!
- لا لا ليست سقطة.. يحدث كل شيء في عمر الشباب، فلا ألومك. قل لي: كيف وجدت أنّا ؟ هل انحزت إليها؟ يا صديقي أنت مُكلّفٌ بإعداد محاضرة قصيرة عن نقد هذه الرواية الأسبوع القادم. ولن أسألك عن سبب قراءتك لها بلغتك. على العموم يتضح أنك تجيد اللغة الروسية بشكل ممتاز.. ولومي الوحيد يقتصر على أنه لو كنت تقرأ الرواية بلغتها الأُم لكانت أفكار تولستوي أكثر استساغة بالنسبة لك!
.. في المحاضرة الموعودة، شعرتُ أن الدنيا ضاقت عليّ حتى كأنه يوم الحشر.. صمت مطبق ساد في القاعة.. بدأت «محاضرتي» بلغة مناسبة لجلال لحظة الوقوف بين يدي عالم.. سردت بأفكار مكثفة ما كتب عن نقد الرواية وإلى أي الرؤى انحاز.. سقت مبرراتي ودلائلي وعلى أي منها اتكأتُ أكثر. انطلق لساني وأنا أرى الفرح يشع من عيني أستاذي الذي اقترب مني كثيرا حتى حضنني.
انهمرت دموعه وهو يقول: أنا فخور بطالبي العربي فخري بأثر المعرفة التي توحّد الأمم والبلدان.
- عُدْ إلى مقعدك أيُّها الشابُّ المشرقيُّ المشرقُ اليومَ. أرجو لك أن تبقى مشرقاً!
copy short url   نسخ
19/05/2019
1042