+ A
A -
فلسطين- الوطن
شكلت مسيرات العودة وكسر الحصار التي انطلقت في الثلاثين من مارس 2018، نقطة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني، حيث كانت لها تداعياتها المهمة فلسطينياً وإسرائيلياً وإقليمياً ودولياً.. وبعد عام على انطلاقتها، يرى متابعون أن المسيرات تمكنت من نقل القضية الفلسطينية والمواجهة مع الاحتلال إلى واقع جديد، ومكنت الشعب الفلسطيني من استعادة زمام المبادرة، ونجحت في الضغط على الاحتلال وتكبيده خسائر مادية ومعنوية مؤثرة، بالإضافة إلى أنها أعادت الاعتبار للإرادة الشعبية ولدور الجماهير بعد الانتكاسة التي تسببت بها الثورة المضادة لثورات الربيع العربي.
وامتازت مسيرات العودة بمشاركة واسعة لمختلف قوى الشعب الفلسطيني وشرائحه من حيث العمر والجنس والانتماء السياسي. كما تميزت بالديمومة والاستمرارية، وأظهر الفلسطينيون على مدار عام كامل إرادة صلبة وعزيمة قوية على مواصلة فعلهم النضالي وسعيهم المستمر لإنهاء الاحتلال.
ويرى تقدير استراتيجي لمركز «الزيتونة» للدراسات والاستشارات السياسية، أن انطلاقة مسيرات العودة تزامن مع عدد من المتغيرات المهمة محليا وإقليميا ودوليا، والتي شكلت مبررات ودوافع لانطلاقتها وديمومتها وتصاعدها.
ويشير التقرير إلى أن مسيرات العودة تزامنت مع تزايد حدة الحصار المفروض على قطاع غزة، وتفاقم انعكاساته الإنسانية والمعيشية ووصولها إلى مستويات خطيرة غير محتملة، واستمرار إغلاق معبر رفح لفترات طويلة، وتشديد السلطة الفلسطينية إجراءاتها العقابية بحق فطاع غزة، بالإضافة إلى مواصلة الإدارة الأميركية جهودها لتمرير مشروع «صفقة القرن» وفرضها على الشعب الفلسطيني وعلى الدول العربية من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
كما تزامنت المسيرات مع إصرار ترامب على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وبالتزامن مع ذلك السعي لشطب حق العودة عبر وقف الإسهام في تمويل «الأونروا»، بالإضافة إلى تصاعد خطير في مسار الاختراق والتطبيع الإسرائيلي مع العديد من الدول العربية، وعلى وجه الخصوص مع دول خليجية، بالإضافة إلى تزامنها مع الذكرى 42 ليوم الأرض، ومع مرور 70 عاما على نكبة الشعب الفلسطيني سنة 1948.
أبرز التأثيرات
ونبه المركز إلى أن أبرز تداعيات المسيرات ونتائجها يتمثل في الانعكاسات المهمة التي تركتها على الوضع الفلسطيني، حيث أسهمت في تخفيف حدة الحصار الجائر المفروض على قطاع غزة. وبشكل موازٍ لمفاوضات التهدئة تم فتح معبر رفح للأفراد ومعبر صلاح الدين للمواد والبضائع لفترات طويلة نسبيا خلال الشهور الماضية، مقارنة بالفترات التي سبقتها.
كما عززت المسيرات مكانة خيار المقاومة، وأكدت أنه خيار منجز وضاغط على الاحتلال، جنباً إلى جنب مع المقاومة المسلحة، وكخيار داعم ومساند في سياق حالة تكاملية، بالإضافة إلى نجاحها في توحيد موقف القوى السياسية الفلسطينية، وحققت وحدة ميدانية في مواجهة الاحتلال، تجاوزت حالة الانقسام السياسي والجغرافي، الذي لم تنجح جولات المصالحة المتعددة في إنهائه ووضع حد له.
أما إسرائيلياً، فقد أثرت المسيرات عميقا في وعي الإسرائيليين وسلوكهم، وأثارت المخاوف لدى مستوطني غلاف غزة بشكل خاص، وكشفت هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية. كما ألحقت أضرارا اقتصادية مؤثرة في المناطق المحيطة بالقطاع، وشلت استنزافا أمنيا للاحتلال في مواجهة مرهقة طويلة الأمد، بالإضافة إلى أنها عززت الانقسامات في الساحة الإسرائيلية، وتسببت باستقالة وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان.
ونبه المركز إلى أن المسيرات أحرجت موقف سلطات الاحتلال دوليا، وأضعفت حججه في تبرير سياساته وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني، ولم تعد ذريعة الدفاع عن النفس مقنعة وقابلة للتصديق لدى العديد من الأوساط الدولية. كما نجحت في تشكيل ضغط قوي على الاحتلال، ودفعته لطلب التهدئة وتوسيط أطراف إقليمية لتحقيق ذلك، الأمر الذي أفضى إلى فتح مسار تفاوضي غير مباشر للتهدئة، تقوده مصر كوسيط بين حركات المقاومة والاحتلال.
أما في ما يخص بتأثيراتها الإقليمية والدولية، فنوه المركز إلى أن المسيرات خاطبت العالم باللغة التي يفهمها، وركزت على الفعل الشعبي السلمي الذي تؤيده المواقف الدولية. وقد عززت مكانة القضية الفلسطينية في الساحة الإقليمية والدولية، وأعادت لها الكثير من الاعتبار، بعد تجاهل إقليمي ودولي طويل، وانشغال المؤسسات الإقليمية والدولية بقضايا أكثر سخونة.
وذكر المركز إلى أن المسيرات وما رافقها من جرائم إسرائيلية ضد المتظاهرين السلميين، أحرجت مواقف بعض الدول العربية التي تورطت بالتطبيع مع الاحتلال، وأسهمت في كبح جماح موجة التطبيع، وفي التخفيف من تسارع الهرولة العربية نحو الكيان الصهيوني، على الرغم من التصدعات والاختراقات الخطيرة التي حصلت في الآونة الأخيرة.
وأشار إلى أن مسيرات العودة نجحت في تحقيق تعاطف وتفاعل دولي جيد مع نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، فإنه على الرغم من استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في 1-6-2018 ضد مشروع قرار كويتي طالب بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، بعد المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد مسيرة العودة في ذكرى النكبة والتي راح ضحيتها نحو 63 شهيدا وأكثر من 3.188 جريحا، إلا أن نتيجة التصويت شكلت إدانة سياسية وأخلاقية قوية للانتهاكات الإسرائيلية وللانحياز الأميركي.
وأكد المركز أن المسيرات أعادت الاعتبار للشارع العربي، بعد الضربات القاسية التي وجهت لدور الحراك الشعبي والجماهيري في أعقاب الثورة المضادة للربيع العربي، وأبرزت أهمية دور الجماهير في التحرك والدفاع عن حقوقها.
وقال المركز: مسيرات العودة شكلت نموذجا متميزا يحتذى في المقاومة الشعبية، وأكدت بشكل قوي تشبث الفلسطينيين بأرضهم، ورفضهم لكل المشاريع السياسية التي تنتقص من حقوقهم وتستهدف شطب قضيتهم، ونجحت في تعزيز مكانة القضية وإعادة الاعتبار لها إقليميا ودوليا، وكسرت الحصار المفروض على غزة جزئيا وبتخفيف تداعياته السلبية على سكان القطاع، وأحرجت المطبعين، ودفعت آخرين للتريث في نقل تطبيعهم من السر إلى العلن، كما أسهمت في تحصين الوجدان العربي ضد التطبيع والاختراق الصهيوني.
المعوقات
وبشأن المعوقات التي واجهت مسيرات العودة في سعيها لتحقيق أهدافها، فنبه المركز إلى أن هذه المعوقات تتمثل في الاستهداف القوي من قوات الاحتلال، وارتفاع كلف استمرارها، والانقسام الفلسطيني الداخلي، واتخاذ السلطة موقفا سلبيا من المسيرات، وانحياز إدارة ترامب الصارخ لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وضعف مستوى التفاعل والإسناد العربي الشعبي، واقتصار مسيرات العودة، كفعل متواصل، على قطاع غزة، وعدم شمولها لمختلف مناطق الوجود الفلسطيني، وضعف الموقف الرسمي العربي، والانقسامات العربية، واندفاع العديد من الدول العربية لتطبيع علاقاتها بصورة علنية مع الاحتلال، وخذلان الحكومات العربية لنضال الشعب الفلسطيني ومسيراته ومقاومته المستمرة للاحتلال.
سيناريوهات المستقبل
وتطرق مركز «الزيتونة» إلى سيناريوهات المستقبل لهذه المسيرات، لافتا إلى أن السيناريو الأول يتمثل في استمرار الوتيرة الحالية للمسيرات مع تذبذب محدود صعودا وهبوطا، حيث يعبر هذا السيناريو عن الأمر الواقع، ويقوم على استمرار المعطيات الراهنة من حيث سلوك أطراف المواجهة المباشرة ومواقف الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة.
أما السيناريو الثاني، فيتمثل في تصاعد المسيرات والمواجهة مع الاحتلال بصورة قوية من خلال تصعيد ميداني قوي في أداء المسيرات، وزيادة حدة الاشتباك مع الاحتلال الصهيوني، وصولا إلى مواجهات قوية واسعة قد تصل إلى مستوى اندلاع مواجهة شاملة جديدة.
ونوه إلى أن السيناريو الثاني قد يعمل على زيادة وطأة الحصار المفروض على قطاع غزة، وتفاقم الأوضاع المعيشية، وتراجع التوقعات فلسطينيا بإمكانية رفع الحصار عبر مفاوضات التهدئة الحالية، وفشل الجهود المصرية في إنجاز اتفاق تهدئة، وتزايد الحرج في موقف القيادة الإسرائيلية، نتيجة المزايدات والضغوط السياسية الداخلية، واستمرار السلطة في بذل مساعيها لإفشال الجهود المصرية للتهدئة، واتخاذ إدارة ترامب مواقف أكثر تشددا تجاه المسيرات.
وفي ما يخص السيناريو الثالث، فيتمثل في تراجع المسيرات وتوقفها دون تحقيق إنجازات مهمة فلسطينيا، حيث سيتم تراجع زخم مسيرات العودة نتيجة إرهاق المشاركين، وارتفاع كلف المواجهة مع الاحتلال، وعدم الشعور بتحقيق إنجازات مهمة توازي الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون.
وتحقق السيناريو الثالث مرهون بتصاعد القمع الإسرائيلي، وتراجع قدرة القائمين على تنظيم المسيرات على حشد الزخم الشعبي المطلوب، ووصول الفلسطينيين إلى حالة من الإحباط، وتراجع الدور المصري وتحول جهود التهدئة إلى حراك سياسي غير منتج ودوران في حلقة مفرغة، واستمرار الخذلان الرسمي العربي للقضية الفلسطينية.
ونبه إلى أن هناك نتائج يتوقع أن تترتب على تحقق هذا السيناريو، تتمثل في استمرار الحصار، وضرب معنويات الفلسطينيين في الداخل والشتات، وارتفاع معنويات سلطات الاحتلال، وتسريع وتيرة التطبيع الرسمي العربي، والتأثير سلبا في قناعة بعض القوى السياسية والأوساط الشعبية بجدوى خيار المقاومة الشعبية، وقدرته على تحقيق الإنجازات.
أما في ما يخص السيناريو الرابع، فهو الاتفاق السياسي على التهدئة وإنهاء الحصار، ويقوم هذا السيناريو على نجاح الجهود المصرية في التوصل إلى اتفاق تهدئة طويل الأمد، ينهي الحصار المفروض على قطاع غزة، ويقود بالنتيجة إلى توقف المسيرات نتيجة تحقق أهدافها الرئيسية.
وشروط تحقق السيناريو تتمثل في نجاح الجهود المصرية في الوصول إلى مقاربة مرضية مقبولة من الطرفين، تنهي حالة التأزم القائمة، ونجاح المسيرات في تشكيل ضغط قوي على الإسرائيليين، يدفعهم للتجاوب بصورة أكبر مع جهود التهدئة، ونجاح القائمين على المسيرات في مواصلة تنظيمها بزخم شعبي جيد، وتراجع قدرة السلطة الفلسطينية على تعطيل اتفاق التهدئة.
والنتائج التي يتوقع أن تترتب على تحقق السيناريو الرابع هي: تحقيق إنجاز مهم في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتكريس معادلة ردع جديدة، ورفع معنويات الفلسطينيين وتعزيز أهمية خيار المقاومة الشعبية، كفعل منجز وضاغط ومساند للمقاومة المسلحة، وكسر الحصار المفروض على قطاع غزة وتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني.
ونبه المركز إلى أن هناك مجموعة عوامل يتوقع أن تلعب دورا مهما في رسم المسار المستقبلي لمسيرات العودة، ومن أبرزها: توفر مبررات تواصل المسيرات بزخم مؤثر، وقناعة منظمي المسيرات بجدوى استمرارها، وبتحقيقها للأهداف المرسومة لها، وموقف الجانب الإسرائيلي وسلوكه السياسي والميداني في التعامل مع المسيرات، وموقف الجانب المصري، واستمرار وساطته من أجل الحفاظ على التهدئة، ومدى تمسك السلطة الفلسطينية بسلوكها المعطل للجهود المصرية، لإنجاز اتفاق تهدئة طويلة الأمد، وموقف الإدارة الأميركية من القضية الفلسطينية، وانحيازها الصارخ لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
وأوضح أنه في حال عدم التوصل لاتفاق سياسي ينهي الحصار، يبدو خيار التراجع عن مسيرات العودة غير مطروح لدى الشعب الفلسطيني بعد التضحيات الكبيرة التي قدمها من أجل تحقيق أهدافه الوطنية.
وشدد على أن توقف المسيرات، نتيجة إرهاق الفلسطينيين ويأسهم من تحقيق إنجازات مهمة، يبدو احتمالا مستبعدا. كما أن احتمالات الذهاب إلى مواجهة عسكرية واسعة بين الاحتلال وقطاع غزة في وقت قريب، لا تبدو مرجحة في الوقت الراهن، مع بقاء فرصها قائمة. ولا ترجح المعطيات الحالية كذلك فرص التوصل لاتفاق سياسي في وقت قريب يقود إلى كسر الحصار وتحقيق هدنة طويلة الأمد.
وأكد المركز ضرورة المحافظة على وحدة الموقف والتوجيه والإدارة لمسيرات العودة، والتمسك بالوحدة الوطنية الميدانية التي تحققت بين مختلف الأطراف الوطنية، وعدم السماح لتداعيات الانقسام السياسي والجغرافي بالتأثير سلبا في تلك الوحدة، والسعي لتوسيع مساحة المسيرات، والفعل الشعبي المؤكد على التمسك بحق العودة، وتفعيل دور القوى السياسية الداعمة للحق الفلسطيني، في تحقيق الإسناد الشعبي في الشارع العربي لمسيرات العودة، واستئناف الجهود في كافة المحافل الدولية للمطالبة بتحقيق الحماية للمدنيين للفلسطينيين ولإدانة الجرائم الإسرائيلية.
copy short url   نسخ
20/04/2019
1121