+ A
A -
صدرت حديثاً الطبعة الثانية من «مَشَاهد من الـذاكرة» للمفكر الأستاذ عمر عبيد حسنة، في (512) صفحة من الحجم الكبير، عن «المكتب الإسلامي» في بيروت؛ لتلقي كثيراً من الأضواء على بعض الملامح الغائبة عن مرحلة السبعينيات والثمانينيات، التي شكلت ولا تزال منعطفات تاريخية على مستوى المنطقة والعالم.. فهي نوافذ وإضاءات لبعض المواقف والعلاقات والشخصيات.
وتتميز هذه الطبعة، التي تأتي بعد عامين من صدور الأولى (2017م)، بما داخلها من إعادة النظر في بعض المشاهد، وتعديل وتجاوز لبعض القضايا، وإزالة ما يُحتمل أن يؤدي إلى شيء من اللبس وسوء الفهم، وإرجاء بعض المشاهد حتى تتاح الظروف الملائمة لطرحها وتجليتها بالشكل المناسب، كما أُضيف إليها كثير من المشاهد والمواقف مما لم يرد ذكره في الطبعة الأولى.
كما تتميز «المشاهد»، بشكل عام، بأنها ليست مذكرات سياسية، أو سيرة شخصية الغاية منها تمجيد (الذات) وتعظيمها والسقوط في النرجسية، وإنما هي أشبه ما تكون بنوافذ ثقافية على مسيرة فكرية تربوية ثقافية، القصد منها تحقيق العبرة وإغناء التجربة وتسديد مسيرة العمل وتجنيبه العثرات، ما أمكن، وصون الأجيال من السقوط وتكرار المآسي.
فهي موجّهة، بشكل رئيس، إلى الجيل القادم، لأخذ العبرة والدرس، فينتفع بمتابعة واستصحاب صوابها، كما ينتفع بتجنب واستبعاد خطئها، على حدٍ سواء.. فتقديم أخطاء القادة والرموز يحقق فائدة كبرى للأجيال القادمة، ويتحولون بذكر اجتهاداتهم ليكونوا وسائل سداد وتسديد لمن يجيء بعدهم.. فالأمة الحية الناهضة هي التي تفيد من الخطأ كما تفيد من الصواب.
ومن ثمّ، فإن «المشاهد» إنما جاءت لإحياء منهج النقد والنظر وإيقاظ عوامل الوعي، من جانب، وتحويل الجوانب السلبية، التي من الطبيعي أن يقع فيها الأشخاص، إلى موقع إيجابي يحقق العبرة لمن يجيء بعدهم.
وهي، من هذا الجانب، إنما تهدف لإشاعة نوع من الثقافة يسميه الباحث: «ثقافة القبول والرفض، والأخذ والرد، والفحص والاختبار لمقولات واجتهادات البشر»، وهي ثقافة لم يتعود عليها العقل المسلم.
ولعل من أبرز ما عرضت له «المشاهد»: ظروف النشأة ومؤشرات الهوية؛ والبيئة الاجتماعية والمناخ السياسي، الذي عاش فيه الكاتب وعايشه؛ ومسيرته العلمية والتعليمية، وإدارته لهيئة تحرير مجلة «حضارة الإسلام» الدمشقية.
كما عرضت لعلاقته بجماعة «الإخوان»، في سوريا، في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وكيف أنه ترك الجماعة بعد انزلاقها إلى المواجهة المسلحة، بعد أن تم اختراقها وإسقاطها في مخطط القيادة القومية لحزب البعث، وعسكرتها وارتهانها للحكم في بغداد، بشكل كامل.. ومن ثمّ هجرته إلى قطر واستقراره فيها.
وتوقف المؤلف كثيراً عند «مدرسة الأمة»، التي يرى أنها تشكل مرحلة نضوج الرؤية وامتداد المنهج.. وكيف بدأ مسيرة الانطلاق بـ «مجلة الأمة» بعد تعثر إصدارها، وتسلم إدارة تحريرها، مبينّاً عوامل النجاح التي ساعدت في انطلاقها، وما واجه العمل من عوائق ومشكلات؛ وزياراته الصحفية؛ وأبرز ملامح منهج مجلة «الأمة».. ورؤيتها، توقفها عن الصدور في أغسطس عام 1986م.
فهو كثير الاعتزاز بتجربته في «مجلة الأمة»، فقد أحدثت المنعطف الكبير في حياته وفي التشكيل الثقافي لذهنية العاملين للإسلام.. فالمجلة على الرغم من توقفها، فقد استمرت في طروحاتها ومنهجها، على كل المستويات: استمرار سلسلة «كتاب الأمة»، و«جائزة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني»، وسلسلة «المشروعات الثقافية الجماعية».. فلقد اكتشفت المجلة الكثير من الخامات المخبوءة، وتمدرس من خلال منهجها وطروحاتها، عن بعد، الكثير من الباحثين والكُتّاب، الذين تُعتبر كتاباتهم وإنتاجهم امتداداً لهذه المدرسة.
كما عرض لأهم «أيام في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية»، والتطور الإداري للوزارة، بدءاً من رئاسة المحاكم الشرعية؛ وذكرياته مع بعض من تعاقب من الوزراء.
وعرض لمساهماته في الشأن التعليمي والثقافي في قطر: من مستشار لمجلس الإدارة في جريدة «الشرق»، إلى عضوية اللجنة المكلفة بإعداد استراتيجية للشباب والرياضة في دولة قطر، إلى المشاركة في تأليف وإعداد ومراجعة مناهج كتب التربية الإسلامية.
كما عرض لمساهماته في الشأن الثقافي العام، مثل الإسهام في الإنتاج الثقافي لـ «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» في واشنطن، وإسهامه في إنتاجه كمستشار؛ والمساهمة باسترداد الدور الحضاري لمسلمي تايلند، على مستوى «جامعة فطاني» و«جامعة الأمير سونكلا»؛ والإسهام في مسيرة التأصيل والتنوير في السودان؛ ورؤى التغيير في تونس؛ والإسهام في إعداد ومراجعة كتاب «الإسلام والمستقبل» في الكويت.
الشخصية الاستقلالية
وتكشف «المشاهد» عن جوانب كثيرة مما تتميز به شخصية الأستاذ عمر.. لعل من أهمها ما يلحظه قارئ «المشاهد» والمتعمق في إنتاجه الفكري بشكل عام: «الشخصية الاستقلالية» التي يُعرف بها على نطاق واسع.
فهو لم ينتمِ لأي حزب أو جماعة أو هيئة أو تكتل أو تجمع، بل كان ينتمي إلى الحق حيثما أتى، يدور معه حيث يدور، فقد يكون مع شخص أو جماعة في قضية يعتقد أنها الحق، ويخالفهم في قضايا له فيها وجهة نظر.
فيكون مع «الإخوان» في بعض المواقف والممارسات، ومع «السلف» أو مع غيرهم في بعض المواقف والاجتهادات.. وهكذا.. فهو مع الحق، الذي يبدو له، وليس مع هؤلاء أو هؤلاء؛ هو مع الحق الموزون بميزان الوحي، قانعاً بأن التنوع سبيل التوالد والتثاقف والتفاكر والاجتهاد.
ويكون، على سبيل المثال، مع العقاد، وهو يقرأ إنتاجه وفكره، لكنه لم يصبح من أتباعه، أو يتعصب لمدرسته.. أفاد من عقله وقدراته الذهنية وقدرته على إقناع المتلقي.. وتعلم منه التفكير.
ويكون مع «مالك بن نبي» وعطائه الفكري، ويفيد منه كثيراً.. فهو يمثل، في نظره، الحاسة الثقافية المفقودة أو الغائبة عند كثير من العاملين في الحقل الإسلامي، ولكنه لا ينتمي لمدرسته.
ويكون مع الشيخ «أبو الحسن الندوي»، قارئاً ومرافقاً له في سفر وحضر، يتعرف على شخصيته المتواضعة والآسرة، ودوره في الدعوة والثقافة والحركة، ورؤيته المبكرة لمخاطر انفصال باكستان عن الهند، وعواقبه، ونقده الجريء لكل من الأستاذ سيد قطب والأستاذ أبو الأعلى المودودي في فكرهم السياسي، رغم حبه لهما.. لكنه لم يكن من تلاميذه.
معادن الرجال
إلى جانب «الشخصية الاستقلالية» تكشف «المشاهد» عن تميزه بامتلاك إمكانات كبيرة في مجال معرفة معادن الرجال، من قادة ورموز العمل الإسلامي، الفكري والدعوي، بشكل خاص، ممن التقى بهم أو عايشهم ورأى من أفعالهم وسمع من أقوالهم.
وفي ضوء ذلك كله، يكتشف المؤلف «أسباب التخلف والسقوط والمعاناة والعجز عن النهوض، على الرغم من الإمكان الحضاري، الذي تتوفر عليه الأمة»، ويزداد قناعة أن الكلمة المكتوبة أبقى، ومن أهم محركات التفكير، وهي أقوى وأبلغ وأوسع انتشاراً، ومحلها العقل.
ويمكن القول بشكل عام: إن «مشاهد من الذاكرة»، على الرغم من كل ما هي زاخرة به من أبعاد فكرية ثقافية، إلا أنها لا تمثل الرؤية الفكرية والمشروع الثقافي للأستاذ عمر، وإنما هي مجرد نوافذ وزوايا للنظر، أما الرؤية الفكرية لكثير من القضايا والنظرة العميقة للإنسان والحياة، حيث كانت معرفة الوحي هي «دليلي وبوصلتي في الحياة»، فمحلها مجموعة مجلدات «الأعمال الفكرية الكاملة»، وما صدر في سلسلة «على بصيرة» وفي غيرها.
copy short url   نسخ
25/03/2019
1611