+ A
A -
بقلم- سهام جاسم كاتبة قطرية
إنَّ طبيعة الرموز لدى الكاتب عدا كونها إثارة ذهنية تجعل القارئ مُتيقظاً ومُتحفزاً للمفاجآت التي يدفعها الكاتب دفعاً قوياً في واجهة الأحداث لتُعدل عن مسارها الذي مضت عليه أمام عيني القارئ نحو وجهةٍ أخرى غير مُتوقعة إطلاقاً، تُضفي على الحبكة نسيجاً بخيوط دقيقة جداً بل وماهرة ومُنتقاة في ألوانها ونقوشها، ذلك عدا أنّها تُسهمُ في تكثيف المشاهد، وتساندُ تلك اللغة العميقة التي يقصدها دوماً بقلمه ليختزلَ شيئاً من المشاهد بما تحويه من معانٍ وأفكارٍ ذات مرامٍ بعيدة.
اقرأ معي تفاصيل المشهد التالي: «وأمي.. أمي تخيطُ الملابس، هنا قطعةٌ مرمية وأخرى لا تصلح للخياطة، وتحت قدميها كومة من خيوط تمّ تقطيعها، خيطٌ أصفر تداخل مع خيطٍ أحمر، الأزرق مرتبطٌ مع الأخضر، الأسودُ مُنتشرٌ، الأبيضُ هناك، كأنّ الحياةَ مجموعةٌ من تلك الخيوط ترتبطُ تارةً وتنفكُ تارة، منها السليم والآخرُ لا يصلح لشيء، وعندما كنتُ أنظرُ لتلك الخيوط أتعجبُ كثيراً، تلك الخيوط بها سرٌ عظيمٌ ودقيق، يشتت ذهني لعب القطة بها، قطتي الصغيرة تلك، ترقصُ لتلتقط تلك الخيوط».
أنظر لهذه الألوان المُبعثرة والخيوط المُتشابكة بفوضويتها وبما ترمز إليه ألوانها، إذ ليس من العسير عليك الاستدلال على رمزية الألوان لأننا نتعامل كثيراً مع مدلولاتها في الواقع، فالأخضر والأزرق رمزا الحياة والخصب والراحة والدعة، أما الأسود فهو رمزُ الشرور والحزن، والأبيض المبتعد هناك فهو الأمل وانفراج الأمور المُرتقب، والقطة التي ترقصُ وتتسلى بالخيوط، هي رمزٌ لعبثية الحياة بحياة الآخرين.
«الأيامُ عبثيةٌ وخائفة،
عندما لا تسودُ طبيعةٌ هادئة
وراء باطل غرورها.
صبراً: ما برح العقربُ الكتومُ يواصِلُ دورانه،
وما كان موعوداً سيتحقق»
كانت تلك كلمات الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، ألا يبدو لك كم تنسجم وتتفق معاني البشر عندما يكونون شعراء وروائيين..!
وظافر لا يُقدم لك الرمز ويتركك حائراً حتى لو لم تكنْ من محبي البحث عما وراء الكلمات، فتجده يقول لك وسط بعثرة تلك الخيوط على لسان البطلة: «كأنّ الحياةَ مجموعةٌ من تلك الخيوط ترتبطُ تارةً وتنفكُ تارة»! أرأيت كيف أسعفك الكاتب بالمغزى..! ذلك عدا شهرة مدينة نابلس العريقة بحياكة الأثواب ذات التطريز الدقيق ذي الألوان المُبهجة..
يقول الكاتب الإيطالي والعالم السيميائي أمبرتو ايكو: «كُلُّ اتصالٍ مع البشر أو بين بعضهم يستلزمُ مسبقاً نظاماً دلالياً كشرطٍ ضروري» وأظنُّ أننا قرأنا ذلك بجلاء في سطور الرواية التي بين أيدينا، أليس كذلك؟!
لماذا وضعتُ عنواناً لهذا الجزء من الدراسة ليتحدث عن الرمز والحبكة معاً؟ ذلك لأنّ رواية سيدة الحزن الأبيض تُصَوِر الرمز حين يكون واقعاً لا ترفاً لغوياً، إذ إنّ اختيار ظافر للبطل بأنْ يكونَ كاتباً يكتبُ رواية نضال سيدة الحُزن الأبيض ويعدُّ لها تسعين ورقةً بيضاء على عدد صفحات الرواية، إنما البطل هنا ما هو إلا رمزٌ لذلك التاريخ الذي تتبدل صفحاته وتُضاف له تواريخَ جديدة وهو يقوم بتسجيل وتوثيق الحقائق، وفي فعل الكتابة إثباتٌ وتقييد.
ولا أدري لماذا ذكرتني تلك اللقاءات التي جرت بينهما كتلك اللقاءات التي تجري بين الطبيب ومريضه، فهل كانت تحتاجُ هي أيضاً للحظة استشفاء من عذاباتها؟ الرواية أكثرُ من احتياجٍ للبوح.
يخالُ إلىّ أحياناً أنّ البطل رمزٌ للوطن العربي «لففتُ تلك المنشفة الزرقاء على نصف جسدي الأسفل، وكأنني أصبحتُ فجأةً حفنة طينٍ صامد على ساحلٍ منسي كسير»* فالجسدُ يابسة، والمنشفة الزرقاءُ بحر، وسيدة الحزن التي تُحادثه (و.ع) وتخبره عن معاناة الاعتقال وجسدها المشوّه بأعقاب السجائر، والآلام الغريبة التي تنتابُ جسده حين تتألم هي وبالرغم من ذلك أعيتها كل الوسائل في أن تشرح له من تكون هي بالنسبة له، فتركت له رسالةً تقولُ فيها: «إلى متى وأنا أبحثُ عنك، وعندما وجدتك، اكتشفتُ أنَّك غريبٌ جداً عني، ليتني لم ألتقِ بك» ألا تبدو البطلة (و.ع) كقضيةٍ تجوبُ الأرض تبحثُ حلاً لما يظنُّه العالم حلاً لقضيتها..!؟
الحلم والرمز
إنّ الكاتب على الرغم من نزعته التحليلية والتفسيرية للواقع، إلا أنّه يجعلُ للأحلام في رواياته تلك الدلالات التي تُشير إلى حدثٍ ما، ويتقن ببراعة المُبدع كتابة تلك الصورة التخييلية التي تبثُ رمزها الدال على ما سيقع وسيكون في الصفحات المُقبلة في الرواية فقد جعل الإشارة على اعتقال سيدة الحزن الأبيض ورفاقها الفدائيين من خلال هذا الحلم اقرأهُ، وانظر لتلك الرموز الحُلمية الدقيقة، كتلك التي كانت في روايته سارا، تقول (و. ع):
«لقد رأيت أننا نحن الفدائيين نُعطي أحدهم عجينةً كي يخبزها لنا ومن ثم يُلقي بها في النار، ولا يُخرجها، تكررت تلك الرؤيا ليومين على التوالي وبعد أسبوع، كان تفسيرها واقعا حدث أمامي» لقد اعتقلت سيدة الحزن والفدائيون بعد هذا الحلم بأيام..
«قالوا لك إنّهم لا يتذمرون، يسألون القليل أو لا يسألون شيئاً، يُعانون بيأس. لكنّهم ليسوا نواحين!» هذا ما قاله الكاتب الإيطالي الرائع تشيزاري بافيزي..
رغم احتشاد المواقف المؤثرة، لكننا نُلاحظ أنّ البطلة (و.ع) لا تستقبلها بالبكاء والعويل، ولا تسرد روايتها بعاصفة انفعالية يهطل الدمعُ فيها مُسترسلاً بلا انقطاع، هي تنطلقُ في حياتها كروحٍ حُرة تحيا انتفاضتها البعيدة المدى، إذ إنَّ همتها العالية والقوة النفسية التي تتحلى بها جعلت الكاتب يُصغي، والقارئ يقرأ، ويتأمل ويفكر، دونما فواصل البُكائيات التي تُعيق الذهن والفعل الحقيقي المؤدي لحل.. إنّها لا تتذمر، وليست بنواحة، هي تلك العربية الأبية الحرة المُلهمة، هي الوطن، الذي يحضن الطُهر والقداسة، ولن يتشح بالسواد، لذا كان الحزن الذي سادتهُ أبيض.. هي لا تستجدي البُكاء ولا تدعو إليه..!
نوافذ وتجوال وصُور
نُلاحظ أَنَّ الكاتب ظافر الهاجري قد أوجد في أغلب رواياته تلك النوافذ التي ترتبط بحكاية صغيرة مع أبطال رواياته سنعرضُ عليكم عرضاً سريعاً شيئاً منها ففي رواية سيدة الحُزن نجد أن البطلة (و.ع) كانت تتجول ليلاً وأثناء ذلك التجوال مرت على أكثر من ثلاث نوافذ، وفي كُلِّ نافذة كانت هنالك حكايةٌ صغيرةٌ تومئ لأمرٍ ما، ومشهدٌ صغيرٌ جداً يُجسد جزءاً من حياة..
وفي روية سارا مرور جاسم الغريب بنافذة منزلها في الواقع يجعله يرحل بعدها وينتقل، لبلدٍ آخر، ليظهر من نافذة الحلم، وتجري الأحداث بشكلٍ آخر.. وفي مجموعته القصصية شبابيك المدينة، يمنح ذلك الشباك الذي تطل منه البطلة كل يوم الحق لتقول للبطل إنّها تعرفه لأنها ألِفت مروره اليومي بآلته الموسيقية وكراسته..
النوافذ في جميع رواياته هي عبارة عن حكايات حية يرى فيها البطل من خارج النافذة أكثر مما يراه من هو خلفها، وكذلك الصور، تجد فيها تلك الوجوه المنسية، يغلفها شيء من ضبابية الذاكرة، ووجوه يعرفها البطل لكنه يستغربُ تلك النظرة التي أثبتها الزمن في عيونهم.. يقول الروائي ظافر عن التصوير الذي يحترفه في سيدة الحزن الأبيض:
«أما عن الصور فكما يقول أغلب المصورين، هي إيقافُ لحظةٍ من الزمن إلى الأبد» الغريب أَنّ البطل يذكر أنّ فتاةً ما كانت معه وهو صغيرٌ ثم اختفت، لقد مسح النسيان جزءاً منها، الذاكرة أضعف من أن تقف في وجه الزمن كالصورة، هو لم يعرف من تكون تلك الفتاة، ولكنها حتماً تعرفه..! لكنه في النهاية وجد تلك الصورة التي أخبرته بالشيء الكثير عن (و.ع) وعنه هو أيضاً..!
أمّا عن التجول لدى أبطاله والترحال فهو يأتي دوماً بعد انتهاء حكايتهم مع مكانٍ ما في زمنٍ ما حيثُ يقررون بعده الرحيل، لتنشأ بعدهم حكايةً جديدةً.. من جديد..! هل رأيتْ أبطالَ رواية يفرون من حكاياهم..؟ هنا متعة السرد الذي يتقنُ حبكةً لا تنتهي..!
هل تعرف ما هي الحكاية التي رحلت عنها سيدة الحزن الأبيض، وتركت كل صورها ورسائلها التي تروي فصلاً منها..؟ حكايتها باختصار شديد، هي أنّها أخت البطل الكاتب سعيد عبداللطيف..! «كنتُ في فترةٍ ما أشعرُ بأنَّ أجزاءً من جسدي تؤلمني، أهي أختي التوءم، أهي أختي وصال..!».
في نهاية الرواية وبعد رحيلها، يتعرفُ عليها، ونهاية الرواية لدى ظافر ما هي إلا بداية حكاية جديدة، لدى البطل، الذي انطلقَ باحثاً عنها..!
الأدب الرفيع هو ذلك الذي يجعلنا نسمع ونرى ونشعر ذلك الجُزء الآخر الذي ننشد من الحياة ويمنحنا القدرة على بلوغه، وبالقلم الرائع والمبدع في تكنيكه الفني الباحث في عمق المعنى والجمال، والمُبتعد بالفِكر إلى مدى آخر لم يسبقْه أحدٌ في الاتجاه إليه ليرسمَ مداه الإنساني الخاص..
ذلك هو الأدب الرفيع الذي يجعلك تبحث عن تلك الحياة المكتوبة التي يتحدث عنها الروائي ظافر بشغف: «السعادة.. أن تضحك بصدق.. أن تبكي بصدق».
رواية سيدة الحزن، تُعلمك، كم هو الحزن ضعيفٌ أمام عشق الحياة.
copy short url   نسخ
25/03/2019
4095