+ A
A -
بقلم ســـهـام جـاســـم كاتبة قطرية
روايةٌ تتصافح فيها غُصون أشجار النارنج مع الزيتون، وتُلوح بأكفها شجرة البرتقال من أرض البرتقال الحزين، لتلك النارنجة القديمة المنزوعة الجذور المزروعة في غير أرضها، بينما تنعكسُ بشكل دائم على أرضها ظلال أوراق شجرة الزيتون مع أشعة الشمس المُتساقطة، وكأنّها تحتضنُ الأرض ضوءاً وظلاً وجذوراً وسماء، وكُلُّ ذلك الانعكاس بما فيه من شفافية الرمز والمعنى لم يحتجْ لمرايا، مطلقاً، لأنّ ذلك النوع من الانعكاس ماهو إلا عشقُ الطبيعة لأرضها لأنّها الطبيعة، فكيف إذن هو عشقُ الإنسان؟
لرواية سيدة الحزن الأبيض كاتبان، الأول هو الروائي ظافر الهاجري والثاني هو بطل الرواية الكاتب سعيد عبداللطيف الذي يدوِّن حكاية سيدة الحزن الأبيض منذ بداية الرواية إلى نهايتها، سعيد عبداللطيف موظف وكاتب يعيش في إحدى دول الخليج العربي التي لن تعرفَ اسمها طيلة الرواية إلا من خلال ورقة لاصقة مكتوبٌ فيها السعر بالعملة مثبتة على كرسي صغير، وكذلك من خلال بعض الأماكن.
تعيش في قلبه قصة حبٍّ، لامرأة ما، لا يذيعُ اسمها للقارئ، حتى وهو مسترسلٌ في منولوج داخلي عميق المدى.
تتصل به سيدة، هي سيدة الحزن الأبيض، حيثُ تقوم بتهنئته على إصدار كتابه الجديد «مرجم إبليس– قصصٌ من الحياة» لتطلبَ بعدها مقابلته لأمرٍ ما، يسألها عن اسمها، فترد عليه بحرفين فقط: ( و.ع ) لكنّه في الواقع يُحِبُّ أخرى، ما هذا!
يتقابلان في أحد المقاهي، يتعارفان، وتبدأ سرد حكايتها، ومعها تبدأ رواية سيدة الحزن، فتاة فلسطينية من مدينة نابلس العريقة قاهرة الأعداء ذات الآثار الكنعانية التي عتقها التاريخ بجيئته وذهابه عليها إِنّها تحديداً فتاةٌ من طوباس، تحدثه عن طفولتها، وتفاصيل أسرتها، كما ستخبره عن انخراطها في صفوف المناضلين إلى جانب أخيها الأكبر ناصف، وبتفاصيل العمليات الفدائية التي قامت بها، وهذا الشتات الذي تعيشه ماهو إلا اعتقالٌ مؤقت ولكن بشكلٍ آخر.
لكن هُنالك شيئا مُحَيِّرا وغريبا في سيدة الحزن الأبيض، إنّها تُخبِرُ رجُلاً غريباً عن كُلِّ أمور حياتها وتستقبله في منزلها، وتهبه كُلَّ رسائلها وصورها القديمة، ثُمّ ترحل إلى نيس، وفي المقابل ترفضُ أنْ تُخبرَه اسمها!
«أنتِ هُنا تُريدين قولَ شيءٍ ما ! لكنكِ لن تقوليهِ لي..»*
ثُمَّ لماذا يكترث لأمرها، ويعبأ..؟ هل هنالك أمرٌ ما يعملُ في الخفاء..؟ من يكونُ هو لتخبرَه بذلك كُلِّه فهو ليس سوى كاتب مهتم بالشأن العربي..؟ بل إِنَّ عنوان الرواية يدعو للتساؤل، كيف يكونُ للحزن سيدة..؟ من الذي ساد الآخر..؟ وفي أيّهما تكمن القوة..؟ بل لماذا أصبح الحزنُ مُتشحاً بالبياض...؟
أظنُّ بأننا لن نكفَ عن الدهشة والتساؤل مع رواية سيدة الحُزن الأبيض، إذن لنقرأَها معاً ولنحاول الإجابة عن شيءٍ من هذه التساؤلات..
الشاعرُ روائياً
يُعرِّف وردزورث الشعر «إِنَّهُ فيضٌ تلقائيٌ لعواطفَ قوية».. هذا الفيض المُتدفق من الإحساس في اللغة الشعرية لدى الشاعر والروائي ظافر الهاجري هو الذي يمدُّ لغته السردية بتلك السمة المميزة لها من حيث العمق، والمُضي المُتأني في دروب النفس كيفما شاء لأنَّها دروبٌ ألفها إذ كانت درجات سلالمها يوماً ما خُطىً ارتقى درجاتها كما يرقى ويسمو في معانيه شطراً تلو الآخر ليُشيٍّد بناء قصائده الرائعة..
يقول:
- وأينَ البحر؟
والأمواجُ بلا ملحٍ ولا منظر
-أهذا الصمتُ بالأدراج؟
بلا حبرٍ.. ولا دفتر
- وأين الحُب؟
في المحرابِ والقدّاسِ؟ أم العنبر!
- وأين النورُ يا عمري؟
وراءَ البابِ ينتظرك
- وأين الوصل؟.. في الذكرى!
وما الذكر بحضرتك؟
سوى كوبٍ من القهوةِ بلا سُكر
قصيدةٌ تضمُ الكثيرَ من الأسئلة، عمّا قد يشعره الإنسان في لحظةٍ ما، وقد تبدو أجوبتها بديهيةً لأول وهلة، ولكنها في الواقع ليست كذلك..!
- وأين النورُ ياعمري؟
وراءَ البابِ ينتظرك.
ذلك هو السؤال الوحيد الذي وجد إجابةً له، تُرى هي من الشاعر نفسه أم من المخاطب في القصيدة؟ المهم إنّه صوتٌ آخر في القصيدة يحمل نبرة التفاؤل والأمل، واختلاط الأصوات يعني، أَنّ فيض المشاعر ينسابُ بتلقائيته وعفويته الرقيقة الشفافة، كعطرٍ يبثُّ شذاه للنسيمِ بكلِّ حنوٍ وهدوء..
لكن لماذا اخترت هذه القصيدة دوناً عن جميع قصائده؟ ذلك لأنّ مشاعر الحزن فيها تشبه تلك الموجودة في الرواية، إذ لا يغفل كاتبنا المشاعر التي قد تبديه مُستسلماً وضعيفاً، إنّها تملكُ فقط أَن تُظهره بهذا المظهر ولكنه في الواقع، يقف على قمة شاهقة من قمم الثبات والقوة، فالحزانى.. ليسوا بضعفاء مُطلقاً.. أليس كذلك ؟
وكما تبدو لنا القصائد دوماً في معظمها لا تخلو من المنولوج الداخلي كذلك جاءت رواية سيدة الحزن الأبيض فلقد كان السرد من خلال المنولوج الداخلي وأيضاً من خلال ذلك الحوار الطويل الذي تسرد فيه سيدة الحزن روايتها، ففي هذه الرواية أنت واقعٌ ما بين حوارين طويلين لا محالة..!
إذ تبدأ الرواية بمنولوج داخلي للبطل، يسردُ فيه كل شيء عن نفسه، ليجعلك تتعرف عليه بطريقة غير تقليدية إطلاقاً...
يقول الكاتب في أولى صفحات الرواية إذ يصحب القارئ معه في جولته المسائية في المدينة: «خرجتُ تلك الليلة، وحيداً أسيرُ بين جموع الناس، لبستُ القبعة كي لا يتعرف علي أحد، وكأنني بذلك أردت الهروب من أضواء شوارع مدينتي، ولا أدري من الذي يلاحقُ الآخر».
ثُمَّ يدعو القارئَ ليتعرفَ على مبادئه وأفكاره وعاداته، ويتركه حُراً بلا قيدٍ ليتجول في عقله كفكرةٍ تدورُ حول نفسها، ثم في قلبه، إليك شيئاً منه وعنه: «وليس لدي صديقٌ مُقرَّب، بسبب تلك الأحلام التي تكذبُ علي بنفس الكذبة ذاتها (أَنت مُختلفٌ جداً، فلا تقبل بصداقة أيّ شخصٍ عابرٍ على هامش الحياة يعيش)، يا أحلامي كفى عبثاً، أأبقى وحيداً هكذا؟ إلى متى وأنا وحيدٌ ممتدٌ كالظلِ بلا مأوى، الزوجة مأوى والأصدقاء مأوى».
ثُمّ بعدها يمنحنا شيئاً من صفاته المرئية، لتأتي سيدة الحزن الأبيض تلك السيدة الغامضة لتقطع هذا المنولوج الداخلي للبطل سعيد عبداللطيف بهاتفها، ثُمَّ بحوارها الطويل الذي ستسرد فيه حكايتها مُنذُ مولدها.
قديماً كان العرب يحبذون أن يكون الخطيبُ شاعراً، وفي العصر الحديث ذكر توفيق الحكيم أنَّ أغلب الكُتّاب المسرحيين العالميين كانوا في الأصلِ شعراء، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر شكسبير، وكان يعزو إلى ذلك جمال الحوار المسرحي، لكننا لن نقول رأينا في الشعراء الذين كتبوا الرواية وسنترك ذلك لكاتب الرواية ظافر الهاجري، حيثُ يقول في مقالته «الرواية العربية بلا تاريخ» حول ذلك: العرب يميلون كُلَّ الميل للشعر، ولا يستسيغون الفنون الأخرى من الأدب، وهذا الأمر نراه جلياً في البادية.
إلا أّنَّ الشاعر محمد بن أحمد السديري والذي عاش طول عمره في البادية، قد كتب روايته الأولى والأخيرة وهي (الدمعة الحمراء)، وقد مُثِّلَت في عام 1980م، وهذا يعطيني مدلولاً أن أهل الشعر من أهل البادية لديهم الفكرة الأولى عن الرواية، كما أَنَّ لديهم القدرة على كتابة النص الروائي بغض النظر عن لغته التي كُتِبَ بها).
أعطانا الكاتب مدلولاً على قُدرة الشاعر على كتابة النص الروائي، كما رأينا في أكثر من روايةٍ قُدرته على الإبداع فيها، بل إنني بتُّ أرى بجلاء أَنَّ للغة الشعر سحرها الخاص الذي يبثُّ تلك الروح الجميلة التي تُهيمن على النص الأدبي بمختلف أنواعه.
ظافر وغسّان
تُعدُّ رواية سيدة الحزن الأبيض أول رواية قطرية تتطرق للقضية الفلسطينية، وعندما نتحدث عن أدب المقاومة لابدّ لنا أّن نتذكرَ الرائع غسّان كنفاني، وفي دراسةٍ سابقة لي حول روايته «ما تبقى لكم» رأيتُ أن أعرض لكم أوجه التلاقي التي لمحتها بينهما، ففي الأدب حين يعرضُ الأدباء للقضيةِ ذاتها تتلاقى المشاعر الإنسانية وتتقارب الخطوات وتتبادل النفوسُ انعكاساتها على مرايا الحياة.
كان إهداء الروائي ظافر الهاجري في رواية سيدة الحزن الأبيض مُدوناً كالتالي:«لا عليكم أيُّها المُتورطون بالحزن المتوشحون.. بالرحيل لقلوبكم الحب».
بينما كان الإهداء في رواية ما تبقى لكم للروائي غسان كنفاني مكتوباً بالصيغة التالية: «إلى (خالد) العائد الأول الذي لا يزالُ يسير».
نُلاحظ أنّ توجيه الإهداء في كلتا الروايتين لأولئك الراحلين المُغتربين عن عالمهم الخائضين في معاناتهم ومشقة قضيتهم الماضين في الدرب الوحيد الطويل الذي يشبههم، لكنه ليس بإهداء المواساة، بل هو كذلك التربيت على الكتف الذي يُخبرك أَلا تكترث إذ لايزال هنالك ثمةُ أمل (لا عليكم أيها المتورطون.. لايزال يسير) إذ إنّ خالد الذي يشير له كنفاني هو الشهيد خالد أبوعيشه..
دقات الساعة لدى غسان والساعة الأثرية لدى ظافر.. دقات الساعة لدى كنفاني كدقات عكاز متردد في مُضيه تدق. تدق. تدق....يرددها كصوت العقارب في غمرة الصمت.. تدق.. كصوت الخطوات.. كإحساس التوتر المُتردد في النفس جرّاء الانتظار.. تدق كمن يُحصي الزمنَ وشيئاً آخر.. ثُمّ يرميها وسط الصحراء ويمضي..!
أما الساعة لدى البطل سعيد عبداللطيف في رواية ظافر، فهو لا يحبذ أَنْ يَلبِسَ ساعة اليد وكأنَّه يكره بذلك القيد الزمني كالبطل حامد لدى كنفاني، لذا ابتاع ساعةً دائرية ذات سلسلةٍ طويلة قيل له إِنّها تعود لزمن الخديوي إسماعيل، لكنّهُ لم يُولِ دقات الساعة ذلك الاهتمام، أو ذاك الشأن..
كانت هنالك دقاتٌ أخرى بل وطرقات أخرى، دقات القلم الذي كان يطرق به الطاولة أثناء اجتماع مديره في العمل، وعدد طرقات سيدة الحزن الأبيض على باب المخبأ الذي تجتمع فيه مع الفدائيين، وقد كانت كل طرقة تمثل حرفاً يترجم حروف اسم (و.ع) الذي صرّحت به للكاتب في الرواية، ولك أَنْ تُمعِنَ النظرَ في ذلك الرمز، حين يتحولُ الاسم إلى عدة طرقاتٍ على باب الفدائيين ليُفتح! لقد حزرت اسمها من خلال عدد الطرقات تلك، بقي عليك أيُّها القارئ أن تعرفه وتحزرهُ بنفسك..!
كان السرد من خلال تيار الوعي في الروايتين، لكن كيف تعامل كُلٌّ منهما معه..؟ في رواية «ما تبقى لكم» لغسّان كنفاني كان المنولوج الداخلي أداة سردية للبطل والبطلة، وكلاهما في مكانٍ مختلف، منهمكٌ في تلك الردود الذهنية غير المسموعة..!
أمّا في رواية سيدة الحزن الأبيض فقد كان المنولوج الداخلي هو سردٌ مُشتركٌ بين العقل والعاطفة لدى البطل، أمّا البطلة (و.ع) فقد كانت أداتها هي ذلك الحوار المُسترسل الطويل الذي قلّما ينقطع ذاك الذي يُذكرك بالحوار المسرحي، فالبطل يُفكر ويتأمل، القضية، بينما هي خاضتها وعاشتها، ولا تزالُ آثارها عالقةً فيها..
الحبكة والرمز
«إِنَّ الوعي بالبُعد الترميزي يعني أَنَّه أصبح من المحتمل أَنْ نرى ماننظر إليه، وليس مجرد قراءته. ويؤكد علم الرموز أنَّ الكلمات لا تكون لها معانٍ إلا من خلال ارتباطها بكلماتٍ أخرى، ووجود فوارق بينها» هذا ما قاله جون ساذرلاند في كتابه 50 فكرة يجب أن تعرفها عن الأدب..
في هذه الرواية يتحدثُ الكاتب عن أبشع جريمة إنسانية عرفها التاريخ، وقد أولى اهتماماً كبيراً بالرمز وكثَّفه، ذلك الرمز غير المُتعسف الذي لا يعمد لتضليل القارئ في متاهة المقاصد والنوايا، ولكن يبقى على القارئ أَنْ يُطلق لمخيلته العنان.. ولكن، هل وُفِقَ الكاتب في اختيار رمزياته وتوظيفها في النص؟ وما الذي يُضفيه الرمزُ واحتشاده بكثرة في سيدة الحزن الأبيض..؟
copy short url   نسخ
20/03/2019
1470