+ A
A -
بقلم:د.سعاد درير كاتبة مغربية
الحزن!
الحزن قصيدة رثاء تَكتبها المرأة في صمتٍ كاسِر.. تَنام العيون، وعينها الثالثة هي المرأة لا تَنام.. تَشرد الروح، ويَذوب الجسد المبلَّل برائحة الرحيل كما تَذوب أنفاس شمعة تُقاوم الرغبة في انطفاء..
عن هذه المرأة التي تَشقى في مَهَبّ ريح العمر الحالِفة ألاَّ تتركها بسلام تُحدثنا أنامل الفنان الروسي فاسيلي كريكوريفيتش بيروف Vasily Grigorevich Perov..
في توبولسك Tobolsk شَهدَ فاسيلي بيروف صرخةَ الحياة، وكانت الصرخة هذه مؤذنة باشتعال آخَر تَقوده حركة التيار الواقعي الذي لم يَنْأَ عن تفاصيل الحياة اليومية بقسوتها وجَلْدِ سياطها تلك التي ما كانت يوماً آيلة لذبول في ظلّ غياب صوت قطار الرحمة..
سِحر الواقعية التي استدرَجَتْ إلى منعرجات لذتها فاسيلي بيروف لم يكن ليختلف عن سِحرٍ أسود يَعِدُ بما لا تَعِدُ به أمواج التجريدية والمدّ الانطباعي الذي استنزف جيوب القلم التشكيلي ذاك الذي قَلَّما كان يَنجو من السقوط في شرك الغواية..
أما فاسيلي بيروف، فقد وجَدَ في مدرسة الواقعية ما لم يَكن مُتاحا في غيرها من المدارس، يكفي أنها خدمَتْ همومَه الذاتية التي شكَّلَتْ مفردا بصيغة الجمع، فأضاءت من ثمة الجسرَ الذي كان يربطه بقرينه المتلقي الذي رأى مِن الحكمة أن ينحني إعجاباً بالمعايير الجمالية التي احترمها فاسيلي بيروف، ولم تخطئ ذوقَ الجمهور..
فاسيلي بيروف كانت رحلته قصيرة في الحياة، فهو المسكين لم يعش أكثر من 48 سنة، لكنه يَحكي لنا بريشته عن قسوة الرحلة الأخيرة التي يُطوى فيها ثوبُ الحياة قبل أن تَبتلعه رهبةُ حفرة موحشة يُوارَى فيها الجسد..
يُطْوَى منديل الحياة طَيَّ النسيان، ووراءه يُبْسَط منديل آخَر تَكتبه الدموع الصامتة كتابةَ الريح في يوم عاصف تُقْسِمُ فيه الأشواكُ أن تَجرح الهواء..
لِنَقُل إن «الرحلة الأخيرة» عنوان لوحةٍ تَكتب كتابةً مريرة نهايةَ حياة صغيرة.. حياة هي لا تُعادلها إلا حياة الفنان فاسيلي بيروف الذي انتشله السّلّ قبل أن يقول كلمته الأخيرة..
في كل مرة يَجمعنا موعد مع المبدعين الروسيين نَقف وقفةَ إجلال واعتراف لطُلاَّب المدرسة الواقعية الروسية الذين لم يَتوانوا عن توجيه أصابع الاتهام إلى صُنَّاع الزيف ومحترفي لعبة المراوغة..
الأدب الروسي، بما فيه الفن، يُحْمَدُ له أنه فتح نوافذ على الكشف والفضح والتعرية وما إلى ذلك مِن مقومات الكتابة بالحبر والألوان، فما كان مِن ذلك إلا أن أنصفوا الإنسان، وعَمِدُوا بالتالي إلى رسم الوجه الحقيقي للحياة في مرآة المكاشَفة..
في عمر 30 سنة تقريبا يَقف فاسيلي بيروف وقفة الرهبة عند باب الموت ليزفّ بخشوع حدّ الشفقة موكبَ الجسد إلى ملاذه الأخير: إنها «الرحلة الأخيرة» تلك اللوحة الباعثة على مسافة تأمُّلٍ تَسمح بتسييج حدود الخطوة قبل أن تفارق الروحُ الجسد..
فاسيلي بيروف الطالب المتفوق في أكاديمية موسكو للرسم والنحت يَحصد النجاحَ في التعبير الواقعي عن لحظات مفصلية يَخيطها الحظُّ والصدفةُ بإبرة الألم التي تَقتل ولا تُميت..
لوحة صادمة هي «الرحلة الأخيرة» التي تثير إحساسا فَيَّاضا بالحزن الجاثم ذاك الذي تتآكل فيه الروح حُرْقَةً على مَن غادر في صمت لا يقل وَطأةً عن صمت القبور..
في هذه اللوحة تتجسد حالة بُرود تَكفي لِتُعَطِّلَ حركة الحياة في أدغال غابات الذات، بل لِنَقُل إنها حالة برود تتجسد في صورة مَشهد بارد تكتسحه الثلوج، مشهد تتجمد فيه دماء الحياة فتَكفر بما هو آت..
موت الإحساس يُلهِبُ الأنفاس في موقف صادم تنقل فيه زوجة بائسة جثمان زوجها إلى مثواه الأخير محمولا على ظهر عَربة يجرها حصان يَكاد يتقدمه كلب يحرس غربة الإنسان..
الغريب في المشهد أن النعش المحمول على عربة مجرورة يتوسط طفلين، هما طفلة وطفل بريئان، ونرى بعين القلب كيف أن الطفلةَ تَضمّ جثمان والدها بيدها الصغيرة ممرِّرَةً رسالة عاطفية قوية تُضمِر إحساسا قاهرا بالفقد..
إنها الأنثى الصغيرة، مَنجم حنان هي، جَنَّة حنان هي، يَنْبُوع حنان هي، وحاسة سادسة هي تَفرك مِرارا عيون البصيرة حتى تُكَذِّبَ البصر..
لهفة النفس التواقة إلى عِناق أنفاس الأب الراحل ليس أمامك إلا أن تَقرأها في عيني الصغيرة الأسيانة الناظرة ببراءة تكاد تُذِيبُ مكعبَ القلب.. إنها نظرات الفقد الموجِع التي تَنهش الروح بمخالب الصبر الغائب..
أما الطفل الثاني المتمدد في وضعية شبه استلقاء يسارَ النعش، فيتراءى لنا منكمشا تكاد تخفي ملامحَه قبعتُه الصوفية، وبالْمِثل يَحجب حركةَ جسده ولغةَ الإشارة معطفُه ذاك الذي تنكمش فيه كتلةُ الجسد غير واعدة بموعد مع السلام..
السلام الروحي نص غائب، لا كلمة تَقولها اللوحة غير ما تَكتبه ملامح البراءة التي تُفَصِّل دموعنا على مقاس الحزن، ولا شمس تُشرق للأمل الهارب منه الأفق في ما يُشْبِه الْمَناحة..
رحلة الشتاء والخوف تُنْذِر بقيامةٍ صغيرة تَدفع فيها أذرُع الخواء الرهيب دفعاً بنعش الراحل، فلا صاحِب يَتبع الفقيدَ ولا عَمّ ولا خال ولا جار، وحده الزمن يُريكَ مِن ألوان القسوة إذا جار، ويخبئ لك ما لا تلجمه الأسرار..
حزن مرير يجترّه الثلاثة (الأمّ وطفلاها) في ما يشبه الصفعة الأخيرة التي يَردّ بها المشهَد البارد على لسانِ قَدَرٍ يحفر وخزا في القلب كلمةَ «لا»...
الملابس الفضفاضة، بلون التراب الذي يتلقف الجسد، تكاد تحجب ملامح أنثى هرب منها العِطر، فإذا بها تُشَيِّعُ جنازة زوجها بطريقتها الخاصة مطأطئة الرأس المغطى كُلِّيا، ولا أحد، لا أحد يتضامن مع الزوجة المكلومة سِوى الحصان الحالف هو الآخَر ألا يَرفع رأسه تمرداً على الظروف القاسية التي تواطَأَتْ مع تَدَنِّي درجات الحرارة ضد رغبة الأسرة الصغيرة في حياة ثانية..
الخذلان عنوان لموكب الرحلة الأخيرة، والحصان وحده يَتَرَفَّع، فلا يشارك في جريمة الخذلان، من ثمة يؤازر هو الأُسرةَ الفقيرة، فإذا بنا نَراه ينحني لمطرقة الْقَدَر الذي يَضرب ضربةَ الموت.. ينحني الحصان ويساند الزوجة كما لا يَصنع أيّ إنسان..
قسمات جسد المرأة الذابلة تَعِد بالمزيد من الخضوع والانكسار وهي في طريقها إلى الباب المسدود ذاك الذي تُنذر به غيوم السماء الرافضة أن تفتح للأفق نافذةً على الشمس..
وحده لون الثرى الذي يَحجّ إليه الجسد في رحلته الأخيرة إلى ملاذه الآمِن يُخَيِّم على الروح، ووحده ندف الثلج يُعَبِّدُ الطريقَ إلى الآخِرة..
فاسيلي بيروف يَكتب بألمٍ حكايةَ حياة صغيرة لم يَستمهِلْها الرحيلُ، فإذا به يَعصر برتقالتَها المرّة بقبضتِه الْمُذِلَّة تلك التي تَمْتَصّ الضوءَ في عيون كانت تُرَبِّي الأمَل..
صاحبُنا الشاعر بثورة المشاعِر بين أسوار الذات القابع خلفها صوتُ الوجدان يُشيع جنازة الروح السارية في الشريان، فلا شيء، لا شيء من ثمة تَلتقطه الريشة الغاضبة أكثر مِن لقطات مظلِمة، لقطات ترثي الذات، فما بالك بمأساة حياة..
رَحى الفقد تَدور، وعصا الفقر لا تَرحم، وبئر الحرمان تَطوي حذاء الصبر، فإذا بخيمة الأسى تَجمع الفقراء على طاولة المكابدة والمعاناة.. وما الأُمّ مع طفليها سِوى صفحة مِن صفحات كتاب الهزيمة عند رصيف الحياة..
بين يَدَيْ فاسيلي بيروف ستَلتحم أنتَ بالمستضعَفين أولئك الذين تَطحنهم الأيام كالنملة تحت حذائك، هُم أولئك الذين لا تَرتضي لهم قَدَمُ القَدَر إلا الخنوع والمزيد من التَّقَلُّص والانكماش..
هكذا هُم الفنانون المبدعون، يُدغدغون هُم بذكاءٍ عاطفةَ المتلقي ذاك الذي يَتَسَلَّلون إليه من نافذة الواقعية، فإذا به يَتذوق معهم الخوف واليأس والدموع والتضحية..
أبطال الحزن والدموع الذين يترجمون مأساة الإنسان في لوحة «الرحلة الأخيرة» يُتَوِّجون فاسيلي بيروف بوِسام التميز، مع أنه يَقود أبطال لوحته إلى مصير مجهول، مصير يتربص بعينين منطفئتين لا تَرفعهما المرأة الناظرة إلى القاع بجمر يشتعل بين الضلوع..
ما حاجة المرأة! حقا ما حاجة المرأة تلك إلى أن تَستشرف الآتي هي الهاربة إلى الماضي ذاك الذي تَنجذب هي إلى ذكرياته مغناطيسيا وكأنها ما عادت تُؤْمِن بالحاضر بعد رحيل رفيق حياتها ومُعيل طفليها، ولا عادت تترقب شيئا من الآتي..
المرأة المتقوقعة على ذاتها تُحيل بوضعيتها الجسدية الخاضعة والمستسلِمة على جنازة صغيرة شَيَّعَتْ فيها قلبها المربوط بزوجها الراحل، فلا حياة للمرأة إلا في حِمى زوجها، وحين يغيب هو غياب اللارجعة صَدِّقْ يا صديقي أن حياة المرأة تُصيِّرها لوعةُ الفَقْد مقبرةً..
مشهَد بارد يَشدّ بحرارة على جسدٍ (امرأة وطفليها) فارق الجسد (جسد الراحل).. أما روح هذه وذاك، فكلاهما قد حجزَ تذكرة إلى الماوراء..
أَمَا آن لهذا الوقت الجاحد أن يأكل قطعةَ الغياب؟!
أَمَا آنَ للعطش أن يُخطئَ قاطرة الفلاحين الفقراء؟!
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
16/02/2019
3264